الثلاثاء، 31 يناير 2012

محمد حسنين هيكل (الحلقة الثامنة) : مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان... هواجس قديمة وجديدة!!!

مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان (الحلقة الثامنة) ... هواجس قديمة وجديدة!!!

طوال الفترة الأولى من رئاسة «مبارك» تفاوتت المواقف بشأنه لدى جماهير الشعب المصرى، وتباينت الآراء:

ــ فريق مازال واقفًا عند بقايا «حكاية البقرة التى تضحك»، ولا يكف عن إطلاق النكات حوله.

ــ وفريق ثانٍ يطلب من الرئيس الجديد فوق ما تحتمله الظروف، دون إدراك للمصاعب والقيود التى تعترض طريقه، حتى لقد وصل البعض فى هذا المجال إلى مطالبة «مبارك» بنقض «معاهدة السلام» مع إسرائيل، كى يعود إلى الصف العربى.

ــ وفريق ثالث قدَّر أن الظروف ــ بعد اغتيال الرئيس «السادات» وبعد موجات القلق المرتدة بعد صدمة الاغتيال ــ لا تسمح لأحد بترف التمسك بانطباعات مسبقة أو الإلحاح بمطالب عاجلة، لأن الرجل بالفعل يستحق فرصة مفتوحة.

ــ وفريق أخذته الحيرة، وكان موقفه الإمساك بالتداعيات لا تفلت ولا تتردى، ومقولته أن «اتركوا الرجل لنفسه، ولما يعرف، ولمن يعرف، وانتظروا!!».

وللأمانة فإن الأغلبية من الناس كانت على استعداد لأن تقبل بالرجل، وتنتظره، وتعطيه هذه الفرصة المفتوحة، وإن كان ذلك لم يمنع أن آخرين ظلوا يتوقعون أن يتصرف الرئيس، كما يجب فى رأيهم أن يتصرف.

***
والحقيقة أننى كنت ضمن الفريق الذى يرى أن الرجل يستحق فرصة، خصوصا أن حقائق الأشياء لها منطقها، ومع ذلك فإن الرجل بدا محيرا لى، وبين أسباب حيرتى ما كنت عرفته وإن ظل محجوبا عن دائرة العلم العام.

ــ كنت أعرف شيئا عن قضية «الخرطوم»، وسلة المانجو الملغمة التى أسهمت على نحو أو آخر فى اغتيال الإمام «الهادى المهدى».

ــ وكنت أذكر ما سمعت فى باريس عن النشاط الذى قام به «مبارك»، سواء فى إطار مجموعة «السفارى» فى أفريقيا، أو غير ذلك مما سمعت.

لكننى ــ وربما رغبة فى تهدئة قلق يساورنى من توجُّهاته، خصوصا بعدما سمعت منه بنفسى عن رؤيته للعلاقات مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، حاولت أن أجعل شكوكى تميل إلى ناحية البراءة كما يقولون.

بمعنى أننى فى كل ما هو سياسى لم أضع على الرجل مسئولية قرار سابق على رئاسته، فالقرار لم يكن عنده وإنما عند غيره، ومن الصعب الطلب من كل مسئول فى الدولة ــ حتى على مستوى نائب الرئيس ــ أن يقف أمام كل قرار لا يوافق رأيه ويحوله إلى أزمة، خصوصا إذا كان هذا الرجل نفسه من خارج الدائرة السياسية أصلا ــ وإنما هو من داخل دائرة تلقى الأوامر وتنفيذها، مع الأخذ فى الاعتبار أن بعض المسائل السياسية فيها من قواعد النظر والتفكير ما يختلف عن مواد القانون، ذلك أن السياسة تقدير، فى حين أن القانون نصوص، ومع أن هناك باستمرار صلة لابد من وجودها بين التقديرات والنصوص، إلا أن هذه الصلة تحتفظ فى عوالم السياسة بمرونة أوسع فى تفسير وتأويل النصوص!

يُضاف إلى ذلك أنه فى النظر إلى تصرفات من نوع ما جرى فى «الخرطوم»، أو فى إطار مجموعة «السفارى»، فإن القضايا معقدة، وفيها ما يتعلق بمصلحة الدولة العليا Raison D’Etat، على حد قول الكاردينال «ريشيليو»، لأن المسئول عن القرار له معيار فى حسابه، فى حين أن المسئول عن تنفيذه له معيار آخر، وهذا المسئول عن التنفيذ لديه ما يدفع به أى اتهام، بقاعدة أنه نفذ أوامر صادرة إليه من سلطة أعلى، عليها هى ــ وليس القائم بالتنفيذ ــ حساب دواعى المصلحة العُليا فى القرار.

وأبسط مثال على ذلك أن البوليس لا يملك غير طاعة الأمر، إذا طلب منه إجراء معين فى طلب حفظ الأمن.

وكذلك الجيش حين يُقاتل بهدف النصر.

وقد أثيرت هذه القضايا جميعا، وعلى أوسع نطاق بعد الحرب العالمية الثانية بالذات، وتناقضت الآراء إزاء تصرفات متجاوزة (أو هكذا حسبها الآخرون)، لكن الذين قاموا بها، فعلوا ما فعلوا وهم تحت أوامر رؤسائهم، أى تحت ظروف قوة قاهرة تقتضيها مصلحة عامة قدرها مسئول سياسى، باعتبارها مطالب دولة ولا سبيل أمام المكلف بالتنفيذ غير أن ينفذ، وهذه على أية حال قضية يطول فيها الجدل ولا تفرغ الحجج.

وهكذا فيما يتعلق بـ«مبارك»، فقد كان ظنى أن صفحة حسابه السياسى تبدأ منذ انتخابه فى أكتوبر 1981، لأنه قبلها كان موظفا يطيع الأمر، حتى وإن كان بدرجة نائب لرئيس الجمهورية، وهو منصب سياسى.

***

وبرغم هذه المعايير التى تميل لصالح الشك، بمعنى أنها لا تحكم بمقتضى الظنون، ولا تفصل بالشُبهات، ولا تتعسف فى اختصاصات السلطة بين السياسى والتنفيذى، فإن «مبارك» كان «محيرا»!

فى بعض اللحظات تبدت منه تصرفات تلقى القبول، وفى لحظات أخرى تصرفات تلقى الرفض، وفى مرات أخرى تصرفات تلقى الاستغراب!!

* ومثلا فقد رأيته بنفسى على شاشات التليفزيون المصرى يزور أحد المصانع، ثم يتبسط مع أحد الواقفين أمام الآلات، يتحدث إليه ويسأله عن أجره، والرجل يراوغ فى الرد، ويزيد إلحاح الرئيس، والكاميرات مسلطة عليه وعلى الرجل الواقف أمام الميكروفونات، حتى اضطر الرجل الذى بلغ به الإحراج أشده، أن يقول للرئيس الجديد:

ــ «يا فندم، «أنا عنصر أمن، ولست عاملا هنا».

أى أنه ضابط بوليس دس وسط العمال أمام إحدى الآلات تشديدا مقصودا للأمن.

وهز «مبارك» رأسه وكان تعليقه: «آه»!

لم يقل غيرها وانصرف عن الرجل، ومع أن كل من رأوا المشهد علَّقوا عليه، فقد كان ردى على كل من سألوا: «ألا ينسوا أنه تصرف عفويا بحسن نية»، وفى الحقيقة فإنه كان يكفينى منه فى ذلك الوقت أن أراه يقوم بزيارات منتظمة لوحدات الإنتاج، ويظهر حرصا عليها، يدرأ عنها غارات المتربصين!!

* وفى مثال آخر لقيت الملك «حسين» ــ ملك الأردن ــ فى القاهرة، وكان قد جاء إليها بعد ما بدا من هدوء بعد عاصفة الاغتيال، ولم يدهشنى كثيرا أن الملك أشار بيده إلى سقف صالون القصر الذى ينزل فيه، ويقترح: دعنا نخرج إلى الحديقة نتمشى، فأنا لم أمارس أى رياضة هذا الصباح، وخرجنا، وكان الملك يريد أن يفضى إلىَّ بما لم يشأ أن يقوله داخل جدران القصر، ولم ينتظر طويلا عندما وصلنا إلى الهواء الطلق، وراح يتحدث عن «مبارك»، وخشيته: «أنه لا يعرف ما يكفى عن علاقات مصر العربية ولا تاريخها السابق أو الجديد، ولم يقرأ الملفات، وإذا كان قرأها فهو لم يستوعبها»، وأضاف الملك «حسين»: «إن الرجل لم يتغير منذ رآه لأول مرة وهو نائب للرئيس، يحمل إليه رسالة من «السادات».

وراح الملك ونحن نمشى بين الأشجار يقلد الرئيس «مبارك» عندما جاءه أول مرة نائبا للرئيس، وبرسالة منه، ويقلده وهو يفتح حقيبته، ويستخرج ملفا منها، وطبقا لرواية الملك: «فإن «مبارك» عند بعض النقط لم يستطع شرح المقصود من الرسالة، واستوضحه الملك، ودقق نائب الرئيس المصرى فى أوراقه، وبدا عليه الارتباك، ثم قال: «لا أعرف، ولكن هذا هو المكتوب أمامى، وعندما أعود إلى القاهرة فسوف أسأل الرئيس «السادات» عن مقصده، وأرجوه أن يكتب إليكم»!!».

وعقَّب الملك «حسين»: أنه لم يستطع أن يفهم، هل محدثه نائب لرئيس الجمهورية، أو حامل حقيبة يلتزم بأوراق كتبها بخطه، ومع ذلك لا يستطيع شرحها؟!!

وكان ردى على الملك «حسين» بأن الرجل ــ أقصد «مبارك» ــ ورث أوضاعا معقدة، ومعظمها مشاكل عويصة وخطيرة، ومن الحق أن تُترك له الفرصة.

* ومثلا ــ وفى تلك الفترة أيضا ــ جاءنى السفير «جمال منصور» وكان وكيلا لوزارة الخارجية، وهو من الأصل واحد من الضباط الأحرار (وهو بالمناسبة خال رئيس الوزراء السابق الدكتور «عصام شرف»)، وكان لدى «جمال منصور» ما يريد أن يقوله عن الرئيس الجديد، لأنه لاحظ ــ ونحن سويا ضيوف عشاء ــ نبرة حسن نية تطلب إعطاء «مبارك» فرصة لتثبيت وضعه، وكان رأى «جمال منصور»: «أنه لا فائدة، ثم راح يروى أنه التقى «مبارك» لأول مرة عندما كان يشغل منصب نائب الرئيس، وقد كُلِّف من «السادات» بنقل رسالة إلى الماريشال «چوزيف بروز تيتو» (رئيس يوجوسلافيا)، وهو صديق قديم لمصر، وكان «جمال منصور» وقتها سفيرا لمصر فى «بلجراد»، وكان بالطبع فى صحبة نائب الرئيس عندما ذهب لمقابلة «تيتو»، وقضى نائب الرئيس والسفير مع الرئيس اليوجوسلافى قرابة ساعة، وخرجا بعدها، وكان أول ما قاله النائب للسفير حين دخلا معا إلى السيارة سؤاله: إذا كان يعرف من أين يأتى «تيتو» بأحذيته، فهو طول المقابلة لم يرفع نظره عن حذاء «تيتو»، ويراه «بديعا»، وهو يريد أن يعرف هل الرئيس اليوجوسلافى يشترى أحذيته جاهزة، أم أنها تفصيل؟، وكان طلبه من السفير أن يسأل من يعرف فى حاشية «تيتو»، مضيفا: «أن الأحذية «الحلوة» هى هوايته الرئيسية»!



وكان تعليق «جمال منصور» قوله: «لا فائدة!».

وكان ردى على السفير «جمال منصور» أن اعطوا الرجل الفرصة، وأن هموم الرئاسة لن تترك لديه وقتا للتطلع إلى أحذية من يقابلهم من الرؤساء، وكان بين ما قلت لـ«جمال منصور»: أن «مبارك» هو نموذج الرجل العادى، لا هو الزعيم التاريخى، ولا هو نجم الشباك، وربما أن هذا ما تحتاجه مصر فى فترة هدوء بعد عاصفة المنصة!

  • ومثلا أضاف الأستاذ «فتحى رضوان» ــ وهو الزعيم الوطنى الصلب ــ إلى معارفى تلك الفترة قصة أخرى على نفس السياق، ولها مثل سابقتها صلة بالأحذية!
  •  
فقد اتصلوا به من رئاسة الجمهورية يبلغوه أن الرئيس «مبارك» يريد أن يراه ويتعرف عليه، وأنه حدد له موعدا فى استراحة «الدخيلة» كان ينزل فيها من أيام قيادته للطيران، وأن سيارة من الرئاسة سوف تجىء إلى بيته فى مصر الجديدة، وتقله إلى مطار «ألماظة» فى الساعة السابعة صباحا ليكون فى «الدخيلة» ولموعده مع الرئيس فى العاشرة، وتحمَّس «فتحى رضوان» للقاء، ولديه كثير يريد أن يقوله، وقد كتب بالفعل نقطا استغرقت خمس ورقات بخطه.

وجاءت السيارة ــ وطارت الطائرة، ووصل الأستاذ «فتحى رضوان» إلى مطار «الدخيلة»، وهناك قيل له إن موعده مع الرئيس تأخر ساعتين، لأن ضيفا أفريقيا كان يزور مصر سوف يجىء إليه، وأن هناك غرفة خُصصت له فى الاستراحة حتى يحين موعده، وقضى «فتحى رضوان» فى الغرفة قرابة خمس ساعات، واعتذر عن تناول غداء جاءوا به إليه فى الظهر، وبعد الظهر جاء إليه أحد الأمناء يخبره بأن الرئيس سوف يعود الآن من المطار إلى القاهرة مباشرة، وأنه فى الطائرة سوف يكون مع الأستاذ «فتحى رضوان» ولمدة ساعة على الأقل، وصعد «فتحى رضوان» إلى الطائرة الرئاسية، وجلس ولا أحد بجواره، لأن الرئيس كان فى الجزء الأمامى من الطائرة مع الضيف، على أنه بعد حوالى ربع ساعة من الطيران، قام «مبارك» عائدا إلى المقاعد الخلفية، وجلس على المقعد المجاور لـ«فتحى رضوان»، معتذرا عما وقع من خطأ، لأنه لم يتذكر موعده مع الرئيس الأفريقى، كما أن مكتبه لم يعرف كيف ينسق ما بين موعدين، وأراد فى دفع مظنة الإهمال أن يقول لـ«فتحى رضوان» إنه مازال نفس الرجل لم يغيره منصب الرئاسة، وإنه ــ مقاطعا حديثه ــ تصدَّق بالله يا «فتحى» بيه أنا لا أزال وأنا رئيس الجمهورية أمسح حذائى صباح كل يوم بنفسى، أجلس على الأرض، وأمسح الحذاء بالورنيش، ثم الفرشة، وبعدها قطيفة ألمعه بها.

وراح «فتحى رضوان» يشرح أن رئيس الدولة لا يصح له تضييع وقته فى مسح حذائه، وقال «مبارك»: «هذه من عوائدى كل يوم، حتى وأنا تلميذ فى ابتدائى، وحتى أصبحت قائدا للطيران، ونائبا لرئيس الجمهورية، والآن رئيسا لمصر، وقبل أن يقول «فتحى رضوان» شيئا، وجاء من يقول للرئيس إن الطائرة على وشك الهبوط فى مطار القاهرة، تذكر «مبارك» ضيفه الأفريقى، وأنه يجب أن يكون معه وقت النزول، فقام بعد أن قال لـ«فتحى رضوان» إنه سوف يطلب توصيله بالسيارة بعد الهبوط إلى بيت الرئيس حيث تكون الجلسة الحقيقية بين الرجلين، وهبطت الطائرة، ونزل الركاب، وكانت هناك سيارة فى انتظار «فتحى رضوان» لكنها لم تحمله إلى بيت الرئيس، وإنما إلى بيته هو!!

وكان «فتحى رضوان» وهو رجل جاد فيما يتصرف به، يقول مستفزا، وهو يروى لى ما حدث له ــ وسؤاله:

ــ هل يُعقل أن أضيع يوما كاملا فى السفر ذهابا وعودة نفس اليوم، ثم يكون لقائى معه خمس دقائق لم أستفد منها إلا أننى علمت أنه «يمسح جزمته بنفسه!!».

ورجوته أن يضع المسئولية على المكتب وليس على الرئيس، ولم يقتنع «فتحى رضوان»، ورحل بعدها عن الدنيا ولم يدع إلى مقابلة الرئيس، على الأقل للاعتذار له!

* ومثلا فى هذه الفترة جاءنى الكاتب الكبير والساخر الأكبر الأستاذ «محمود السعدنى»، وقد مرَّ على مكتبى دون موعد يقول «إنه لا يريد غير خمس دقائق وسوف ينصرف بعدها»، ودخل «محمود السعدنى» إلى مكتبى، وسحبنى من يدى إلى شرفة مكتبى يقول لى بصوت هامس:

ــ «مصيبة.. كنت عند الرئيس «مبارك» الآن».

وأبديت بالإشارة تساؤلا مؤداه، وأين المصيبة؟!

وراح «محمود السعدنى» يروى:

جلست مع الرئيس ساعة كاملة كلها ضحك ونكت، وعندما حان موعد انصرافى سألته مشيرا إلى المقعد الذى كان يجلس عليه:

ــ يا ريس.. ما هو شعورك وأنت تجلس على الكرسى الذى جلس عليه «رمسيس الثانى» و«صلاح الدين» و«محمد على» و«جمال عبدالناصر»؟!!

بماذا تظنه أجاب علىَّ؟!

ولم ينتظر «محمود السعدنى»، بل واصل روايته:

«نظر إلى الكرسى الذى كان يقعد عليه، والتفت إلىَّ وسألنى:

هل أعجبك الكرسى؟!

إذا كان أعجبك، فخذه معك».

ويخبط «محمود السعدنى» كفا بكف ويقول:

«وخرجت وطول الطريق لم أفق من الصدمة ــ الرجل لم يستطع أن يرى من الكرسى إلا أنه كرسى، لم يدرك المعنى الذى قصدت إليه».

وحاولت طمأنة «محمود السعدنى»، وأنا نفسى لا أشعر بالاطمئنان، وكان تعليقى:
ــ الحق عليك وليس عليه، لماذا تحدثه بالرمز؟! ــ لماذا تفترض أن رئيس الدولة يجب أن يكون عليما «بالمجاز» فى أدب اللغة؟!

وكان تعليق «السعدنى» لفظا واحدا لا يجوز نشره!

***

ومرت سنة 1984 والرئيس «مبارك» يدخل إلى سنته الثالثة فى رئاسة الدولة، وبرغم كل شىء فقد بدا رجلا يستطيع ــ على نحو ما أن يتأقلم ــ بما يبدد شكوكا كثيرة تصورت أن مرحلة حكمه مجرد تدبير مؤقت، والآن فقد ظهر أن الرجل خطا خطوة، من رجل جاء به تدبير سريع لمواجهة ظرف طارئ، إلى رجل يعبر مرحلة انتقالية، من عصر إلى عصر، وأدليت وقتها بحديث إلى مجلة لبنانية قلت فيها «إن حكم «مبارك» يبدو مرحلة انتقالية، لكن تجارب التاريخ تعلمنا أنه ليس هناك ما هو أقدر على طول البقاء من نظام يتصوره الناس انتقاليا مؤقتا، وبعث «مبارك» إلىَّ برسالة عتاب على اعتبارى لحكمه «مؤقتا»، لكن الغريب أنه لم يلتفت إلى الجزء الذى تحدثت فيه عن طول عمر «المؤقت»!!

وكان الرأى الغالب فى مصر وخارجها أن اختبار قوة وثبات النظام الجديد هو إدارة معركة انتخابات برلمانية حل موعدها، وتصور كثيرون أنها سوف تكون تحديا سياسيا «من نوع ما»، يواجهه الرئيس الجديد، وأن متابعتها سوف تكشف الكثير عن قدراته السياسية، ولم أتابع معركة انتخابات 1984 بنفسى أثناء جريانها، فقد كنت مشغولا عنها بالإعداد لمجموعة «حرب الثلاثين سنة»، وأولها «ملفات السويس»، وكان البحث عن الوثائق وفرزها وترتيبها فى سياقها شاقا، لكن عندما رفعت رأسى عما كان يستغرقنى، اكتشفت من نتائج الانتخابات أن «مبارك» قد واجه تحديه المنتظر بأسلوب لاشك أنه مبتكر، بصرف النظر عن أية «أحكام قيمة»، والغريب أنه كان أسلوبا شديد البساطة شديد التعقيد فى نفس اللحظة!

***

وفى الحقيقة فإن هذا الأسلوب كان تأسيسا لمدرسة مختلفة تسربت إلى السياسة المصرية، ومن حسن الحظ أنه كان أمامى مصدران للتعرف على مدرسة «مبارك» عندما تدخل إلى التطبيق العملى لسياساتها ــ أى فى الحركة عند التنفيذ!

* المصدر الأول: لقاء طويل على جلستين مع اللواء «حسن أبوباشا» (وزير الداخلية) وهو المسئول الذى أشرف على المعركة الانتخابية الأولى فى عهد «مبارك».

و«حسن أبوباشا» ضابط بوليس مصرى أمضى معظم تجربته العملية فى الأمن السياسى، وهو منضبط وملتزم، لكنه عند لحظة من اللحظات يفقد قدرته على الاحتمال ويحتج، سواء بمنطق الممكن أو بمنطق المستحيل!!

* والمصدر الثانى: مجموعة كراسات كان يكتبها اللواء «محمد تعلب» (مساعد وزير الداخلية إلى جوار «حسن أبوباشا»)، وهو ضابط من نوع آخر لديه حس إنسانى عام ووعى تاريخى يتخطى المألوف، وقد خطر للواء «تعلب» أن يسجل ــ وبعلم وزيره ــ نوعا من يوميات معركة الانتخابات لسنة 1984، وكذلك ملأ كراستين كاملتين بخطه بوقائع تلك المعركة.

وكان اللواء «حسن أبوباشا» حين سمعت منه ما سمعت عن معركة انتخابات سنة 1984 ــ قد ترك مقعد وزير الداخلية، وكان الرجل يشعر أنه ظُلم، وتحمَّل عن غيره ما يتردد قبل الإفصاح عنه، ومع تواصل الحديث خصوصا فى اللقاء الثانى، فإن الرجل بدأ يلين، وبدا أسلوب «مبارك» فى السيطرة على نتائج الانتخابات يبين، ليظهر أن الرئيس الجديد لديه أكثر بكثير مما يراه الآخرون على السطح.

***

وطبقا لرواية اللواء «حسن أبوباشا» (وما قاله تؤيده النصوص مما سجله اللواء «تعلب» من يوميات المعركة الانتخابية) ــ أن «مبارك» عقد مع وزير داخليته جلسة تمهيدية شرح له فيها ما يتصوره لانتخابات مجلس الشعب الجديد:

1ــ «الرئيس» يرى أن تكون الانتخابات ــ وهى الأولى فى عهده ــ مفتوحة لكل من يريد أن يترشح بـ«حريته»!

2 ــ و«الرئيس» بضرورات السلامة الوطنية كما يراها سوف يحدد نسبة مئوية لما يمكن أن تفوز به المعارضة من مقاعد مجلس الشعب، وذلك موضوع سوف يتفق عليه مع وزير الداخلية عندما تتضح «الصورة»، لأن أحوال البلد فى هذه الظروف لا تتحمل «اللعب» أو «المغامرة»!!

3 ــ و«الرئيس» لديه قائمة أسماء لا يريد لأصحابها أن يدخلوا المجلس الجديد مهما كانت الدواعى، وهو أيضا سوف يعطى قائمة هذه الأسماء لوزير الداخلية عندما يظهر على وجه اليقين من ترشح، ومن لم يترشح للبرلمان الجديد!!

كانت الصيغة غاية فى البساطة وتلك «عبقريتها»!!

باب مفتوح لمن يشاء ــ ونسب مئوية لأحزاب المعارضة، وهو يريد أن تكون لوزارة الداخلية مرونة فى «التصرف» كما تشاء فى الدوائر والأسماء، ولكن فى إطار النسب المئوية المقررة!! ــ ثم إنه سوف يعطى لوزير الداخلية قائمة بشخصيات غير مرغوب فيها، لا يُسمح لها بدخول المعركة أصلا، ولا دخول المجلس طبعا!! ــ وهذه الشخصيات مختلفة ومتنوعة، فيها أعضاء من الحزب الوطنى، وفيها أفراد من أحزاب المعارضة ــ وهذا كل شىء!

***

وفى رواية اللواء «حسن أبوباشا»، ومن «تقديره للظروف»، فإن قواعد اللعبة (كما سمعها من «مبارك») كان يمكن من الناحية العامة تبريرها، شرط توافر ما وصفه «أبوباشا» فى سياق كلامه بـ«درجة من المعقولية «توازن» النتائج ولكن لا تزيفها»، وفى رأيه أن ذلك كان مرهونا بالنسب التى يسمح بها الرئيس للمعارضة، وبمحدودية قائمة غير المرغوب فيهم والمحظور نجاحهم ودخولهم مجلس الشعب الجديد، لكن الصدمة وقعت حين جاءت مقابلة الحسم بين وزير الداخلية وبين رئيس الجمهورية.

ففى لقائهما التالى والسابق للانتخابات، سمع اللواء «حسن أبوباشا» من «مبارك» ما «أفزعه» حسب قوله:

1ــ أن «الرئيس» على استعداد لأن يترك للمعارضة 5% من المقاعد، أى حوالى عشرين مقعدا، لكل الأحزاب وقوى المعارضة مجتمعة.

2 ــ وأن قائمة غير المرغوب فيهم أكبر مما توقع، وكانت دهشته أن الاسم الأول فيها اسم شقيق الرئيس «مبارك» نفسه، وهو السيد «سامى مبارك».

وكان تشدُّدْ «الرئيس» حيال ترشيح شقيقه غير مفهوم، فقد وصل «مبارك» إلى حد القول «بأنه أمر بحذف اسم شقيقه من قائمة مرشحى الحزب الوطنى، ولكنه سمع أنه ذهب بعدها إلى حزب الوفد يطلب من الأستاذ «فؤاد سراج الدين» أن يرشحه عن حزب الوفد، وأن «فؤاد سراج الدين» قَبِلَ منه ما اقترح ــ «سامى» ــ عليه».

وزادت المفاجآت على وزير الداخلية لأن «مبارك» أوفد «أسامة الباز» إلى «فؤاد سراج الدين» حتى لا «يأخذ» شقيقه على قائمة الوفد، ولكنه لم ينجح، ثم طلب «مبارك» من وزير داخليته أن يتصل بنفسه مع «فؤاد سراج الدين»، وأن يبلغه ــ وباسم الرئيس ــ أنه لا يريد أن يدخل شقيقه إلى الانتخابات على قائمة مرشحى الوفد!».

ووعد «أبوباشا» بالاتصال بـ«فؤاد سراج الدين»، ثم انتقل بعد ذلك إلى الموضوع الأساسى، متصورا أن «الصيغة المباركية للانتخابات النيابية» قابلة للمناقشة، وكذلك عرض تعديلات تصورها أكثر ملاءمة.

ــ أولها: أن «يتفضل الرئيس بمراجعة النسبة التى سمح بها للمعارضة، وأن يرفعها من 5% إلى 20%، أى حوالى مائة مقعد، ورأيه أن ذلك لا يؤثر على أغلبية الثلثين فى المجلس، وهى النسبة التى تسمح بتعديل الدستور (إذا طرأ ما يقتضى)».

ــ والثانى: أن يختصر الرئيس قائمة الممنوعين من دخول المجلس، وأولهم السيد «سامى مبارك» شقيقه.

وفوجئ اللواء «أبوباشا» بالرئيس «مبارك» وقد علا صوته، واحتدت نبرة صوته، وهو يقول: «سامى» موش ح يدخل، يعنى موش ح يدخل!!».

وقال «أبوباشا»: «ولكن (سيادة الرئيس) الداخلية قامت باستطلاع لموقف الأستاذ «سامى»، وتبين أنه قادر على النجاح «بالراحة» فى الدائرة التى رشح نفسه عنها».

ورد «مبارك»:

ــ مستحيل!

ثم قال الرئيس لوزير داخليته:

ــ «حسن».. أنت ضغطت على أعصابى بأكثر من اللازم، ولست الآن فى مزاج (استعمل الكلمة الإنجليزية Mood) يسمح لى بمواصلة الكلام معك، ثم نهض واقفا ينهى المقابلة ويخرج من الغرفة، ويترك وزير داخليته يبحث عن الباب للانصراف!

***

وفى دفاتر يوميات المعركة الانتخابية (كما سجَّلها اللواء «تعلب» مساعد الوزير بخط يده) ــ إشارات لهذه المقابلة بما فيها عبارة أن الرئيس ليس «فى مزاج Mood» يسمح له بمواصلة مناقشة العملية الانتخابية بأكثر مما قال وحدد!!

كانت معركة الرئيس «حسنى مبارك» ضد شقيقه «سامى مبارك» دالة فى كثير من تفاصيلها على طبائع يصعب تفسيرها.

فالرئيس لم يكتف فقط بإبلاغ وزير الداخلية أن شقيقه لا ينبغى أن ينجح فى الانتخابات مهما كان الثمن، وإنما أضاف إلى ذلك احتياطات بدت غريبة لوزير الداخلية، لأنه اتصل بوزير الحكم المحلى وأكَّد طلبه، بل واتصل مكتبه ببعض مديرى الأمن.

وسجَّل مساعد وزير الداخلية اللواء «محمد تعلب» فى دفتر يومياته عدة ملاحظات تثير الاستغراب:

ــ ملاحظة أولى: نقل فيها عن اللواء «حسن أبوباشا» وزير الداخلية «أن شدة الضغوط عليه جعلته يقول له بنص ما كتبه «تعرف يا تعلب، العلاج الوحيد للوضع ده أنى أموت!».

ــ ملاحظة ثانية: يكتب فيها مساعد وزير الداخلية بالنص: «لا أعرف السر فى إصراره (يقصد الرئيس) على عدم نجاح أخيه إلى هذا الحد، حتى بت أتصور أنه هو الذى يحقد على أخيه وليس العكس!».

ــ ملاحظة ثالثة: أن وزير الداخلية طلب مقابلة «مبارك» قبل الانتخابات بعدة أيام، والهدف أن يحدِّثه فى موضوع شقيقه (ضمن موضوعات أخرى)، لكن «مبارك» رفض وقال إنه ليس لديه المزاج لمقابلة وزير داخليته (ليس فى Mood يقابل فيها أحدا)، ولم تكن هذه هى المرة الأولى الذى يستعمل فيها «مبارك» هذا التعبير مع «حسن أبوباشا»، وبعد رجاء كان رد «مبارك»: «موعدنا بعد الانتخابات يا حسن»!!

(وبعد الانتخابات كان «موعدنا» هو الخروج من الوزارة!).

***

لكن دفاتر اللواء «تعلب» تسجل ما هو أغرب، وذلك أنه فى نهاية يوم الانتخابات تبين حصول السيد «سامى مبارك» ورغم ــ كل الجهود ــ على نسبة تزيد على سبعين فى المائة من الأصوات فى الدائرة التى رشَّح نفسه عنها!

وجاءت الأوامر من الرئيس شخصيا بأنه «أبدا»! ــ وأن كل شىء فى اللجنة العامة للفرز يجب أن يتوقف، حتى يصل إلى هناك مبعوث خاص للرئيس، وبالفعل وصل إلى مقر اللجنة الرئيسية مستشاره «أسامة الباز»، وطلب إعادة فرز الأصوات، و«التصرف» بكياسة لكى لا يغضب الرئيس، وكان المشهد مزعجا للجميع، وأعيد فرز الأوراق، بحضور أعضاء من اللجنة العامة، وظهرت النتائج ــ مرة أخرى ــ كاسحة لصالح «سامى»، وإلى درجة لا تنفع معها أية «كياسة»، لأن المشهد كان واضحا أمام كثيرين، والالتفاف حوله فضيحة يلزم تجنبها من أجل الرئيس نفسه!

وعاد «أسامة الباز» إلى الرئيس يهدئ خواطره إلى أنهم أمام Fait accompli أى أمر واقع، وطبقا لرواية وزير الداخلية فإن الرئيس «مبارك» لم يجد حلا، لكنه قال «إن «أبوباشا» سوف يدفع ثمن غلطته!!».

وكذلك خرج «حسن أبوباشا» من وزارة الداخلية!

***

وبعد شهور طلب السيد «سامى مبارك» مقابلتى، وحددت له بالفعل موعدا جاء فيه، وجلس أمامى فى مكتبى، وراح يحكى، ورأيت لفت نظره إلى أن غرفة مكتبى قد لا تكون مأمونة لما يقول، وكان رده: «أنه لا يبالى إذا سمع «حسنى» ما سوف يقوله لى، «لأنه» بعد ذلك سوف يترك البلد «له» ويسافر إلى ألمانيا».

واستطرد «سامى مبارك» إلى حديث طويل عن علاقات عائلية مزدحمة بالعقد الغائرة والتعقيدات الظاهرة، وكله معبأ بالمرارة، وكله فى ظنى مما لا يصح الخوض فيه.

لكنى لا أستطيع إنكار هواجس جديدة راحت تنضم إلى هواجس سابقة حاولت تنويمها!


فى الحلقة القادمة    تمرد الأمن المركزى كان «إشارة حمراء» فى سياسة «مبارك»    كيف دخلت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الساحة المصرية بطريقة كاسحة؟!

الأحد، 29 يناير 2012

شعر نزار قباني : قارئة الفنجان

قارئة الفنجان

جلست والخوف بعينيها

تتأمل فنجاني المقلوب

قالت:

يا ولدي.. لا تحزن

فالحب عليك هو المكتوب

يا ولدي،

قد مات شهيداً

من مات على دين المحبوب

فنجانك دنيا مرعبةٌ

وحياتك أسفارٌ وحروب..

ستحب كثيراً يا ولدي..

وتموت كثيراً يا ولدي

وستعشق كل نساء الأرض..

وترجع كالملك المغلوب

بحياتك يا ولدي امرأةٌ

عيناها، سبحان المعبود

فمها مرسومٌ كالعنقود

ضحكتها موسيقى و ورود

لكن سماءك ممطرةٌ..

وطريقك مسدودٌ.. مسدود

فحبيبة قلبك.. يا ولدي

نائمةٌ في قصرٍ مرصود

والقصر كبيرٌ يا ولدي

وكلابٌ تحرسه.. وجنود

وأميرة قلبك نائمةٌ..

من يدخل حجرتها مفقود..

من يطلب يدها..

من يدنو من سور حديقتها.. مفقود

من حاول فك ضفائرها..

يا ولدي..

مفقودٌ.. مفقود

بصرت.. ونجمت كثيراً

لكني.. لم أقرأ أبداً

فنجاناً يشبه فنجانك

لم أعرف أبداً يا ولدي..

أحزاناً تشبه أحزانك

مقدورك.. أن تمشي أبداً

في الحب .. على حد الخنجر

وتظل وحيداً كالأصداف

وتظل حزيناً كالصفصاف

مقدورك أن تمضي أبداً..

في بحر الحب بغير قلوع

وتحب ملايين المرات...


وترجع كالملك المخلوع

شعر نزار قباني : رسالة من سيدة حاقدة

رسالة من سيدة حاقدة

لا تدخلي

وسددت في وجهي الطريق بمرفقيك … وزعمت لي …

أن الرفاق أتوا إليك … أهم الرفاق أتوا إليك

أم أن سيدةً لديك … تحتل بعدي ساعديك ؟

وصرخت محتدماً : قفي ! والريح … تمضغ معطفي …

والذل يكسو موقفي … لا تعتذر يا نذل لا تتأسف

أنا لست آسفةً عليك … لكن على قلبي الوفي

قلبي الذي لم تعرف … ماذا لو انك يا دني … أخبرتني

أني انتهى أمري لديك … فجميع ما وشوشتني

أيام كنت تحبني … من أنني …

بيت الفراشة مسكني … وغدي انفراط السوسن

أنكرته أصلاً كما أنكرتني …

لا تعتذر …

فالإثم … يحصد حاجبيك وخطوط أحمرها تصيح بوجنتيك

ورباطك … المشدوه … يفضح

ما لديك … ومن لديك

يا من وقفت دمي عليك

وذللتني ونفضتني

كذبابةٍ عن عارضيك

ودعوت سيدةً إليك ………… وأهنتني

من بعد ما كنت الضياء بناظريك …

إني أراها في جوار الموقد … أخذت هنالك مقعدي …

في الركن … ذات المقـعد …

وأراك تمنحها يداً … مثلوجةً … ذات اليد …

ستردد القصص التي أسمعتني …

ولسوف تخبرها بما أخبرتني …

وسترفع الكأس التي جرعتني …

كأساً بها سممتني

حتى إذا عادت إليك … لترود موعدها الهني …

أخبرتها أن الرفاق أتوا إليك …

وأضعت رونقها كما ضيعتني …

محمد حسنين هيكل (الحلقة السابعة) : مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان... لا مؤاخذة!!

مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان (الحلقة السابعة) ... لا مؤاخذة!!

محمد حسنين هيكل منذ ذلك اللقاء الأول ــ والمطول ــ مع الرئيس «مبارك»، كان بين ما لفت نظرى ــ وبشدة ــ توسعه الشديد فى استعمال ألفاظ يصعب تداولها فى أحاديث السياسة، ومعظمها مما تتجنبه الأعراف، وبعضها مما تطاله مواد القانون!!

وفى ذلك اللقاء الأول لاحظ هو دهشة لعلها أفلتت إلى ملامح وجهى عندما سمعت بعض ما كان يرد على لسانه بين الحين والحين من لفظ، وكذلك بادر إلى شرح ما لم يكن لديه داعٍ لشرحه، قائلا «لا مؤاخذة يا محمد بيه»، ولكن هذه التعبيرات أننى لاحظت أنها أقلقتك هى اللغة التى كنا نستعملها فى المعسكرات والقواعد البعيدة».

وطمأنته إلى أننى بتجربة مراسل حربى قديم ــ سواء فى الحروب التى خاضتها مصر، أو فى حروب آخرين غطيتها ــ سمعت قادة كبار يستعملون مثيلا لما وصفه بأنه «لغة المعسكرات والقواعد»، وطمأنته أيضا إلى أننى سمعت الرئيس الأمريكى الأشهر الچنرال «دوايت أيزنهاور» ــ يستعمل هذه الألفاظ مرات!

وأظهر اهتماما بقوله: و«كمان» أيزنهاور؟!».

ثم أضاف أنه سمع نفس اللغة عندما كان فى روسيا يدرس فى كلية «فرونز»، ثم سمعها ــ كذلك ــ أثناء اختلاطه بالعسكريين الأمريكيين الذين التقاهم فى تجربته، حتى كنائب رئيس، لكنه لم يخطر له أن يستعملها «أيزنهاور»!!

وعلَّق وهو يبتسم «أن الناس تسمع هذه الأسماء المشهورة فى العالم وتنبهر، لكنه عندما يقتربون منهم كفاية يرونهم مثلنا «ويمكن أوحش»!!».

أضاف «مبارك» أن «سوزى» (يقصد السيدة قرينته)، حاولت منذ زواجهما أن «تربينى» من جديد، وقد نجحت، واستدرك «مبارك» ــ بعفوية ــ قائلا: «إلى حد ما»، وأضاف «أنه واعٍ لهذه المشكلة، حريص ألا تفلت منه كلمة أثناء خطاب عام».


جمال عبد الناصر مع الجماهير أثناء حرب السويس

●●●

ولم يظهر لى بعدها أن «مبارك» حقق نجاحا كبيرا رغم محاولاته، ومحاولات غيره، فقد حدث فيما بعد ــ أن زارنى الأستاذ «فؤاد سراج الدين» يريدنى أن أسمع شريطا مسجلا ــ وصل إليه ــ لخطاب ألقاه وزير الداخلية ــ وقتها ــ اللواء «زكى بدر» أثناء مؤتمر شعبى فى «قليوب»، وسمعت الشريط وإذا وزير الداخلية يكرس فقرات طويلة من خطابه للهجوم على رئيس حزب الوفد، ثم يتجاوز بالسب والقذف، واصلا إلى أصول العائلة وجذورها، وكان «فؤاد سراج الدين» مستفزا وبحق، وهو يحكى لى وقائع ما جرى!!

واتصلت و«فؤاد سراج الدين» أمامى بـ «أسامة الباز»، وكان فى مكتبه بوزارة الخارجية القديم، أسأله إذا كان يستطيع أن يمر علينا، وهو على بُعد خمس دقائق بالسيارة من مكتبى، وبالفعل جاء «أسامة» وسمع بنفسه رواية «سراج الدين»، وتعهَّد بأنه سوف يأخذ الشريط إلى الرئيس، وهو «يثق أنه لا يرضى بإهانة أحد، خصوصا رجل فى مقام «فؤاد» (باشا)».

وبعد يومين اثنين اتصل بى الرئيس «مبارك» بنفسه على التليفون يقول «إنه عرف بما وقع وحقق فيه ــ وأنه طلب من «زكى بدر» أن يعتذر لـ«فؤاد سراج الدين» ــ وأن وزير الداخلية نفذ الأمر ــ وهو يطلب اعتبار الموضوع منتهيا».

وأضاف «مبارك»:

إن «زكى بدر» حاول أن يلف ويدور معه، مدعيا أن شريط التسجيل مزور، ولكنه لم يعطه الفرصة، ثم راح «مبارك» يروى ما جرى بعد ذلك.

وطبقا لروايته:

«اتصل به «زكى بدر» وأبلغه أنه اعتذر فعلا لـ«سراج الدين» ــ وبأمر الرئيس ــ رغم أنه مازال مصرا على أن الشريط مزور.

وسأله «مبارك»: هل «قَبِلَ» «فؤاد سراج الدين» الاعتذار؟! ــ وكان الرئيس «مبارك» يضحك وهو ينقل لى ما سمعه من وزير الداخلية «زكى بدر»، الذى رد عليه قائلا له: سيادة الرئيس أنت تعرف «فؤاد سراج الدين»، هذا النوع من الناس لا يمكن إقناعهم، فهم (......)، وكلها شتائم أقذع مما قال فى الشريط.

واستطرد «مبارك»: تصور أنه وهو ينكر فى كلامه معى، كرر السب والقذف بأشد مما قاله علنا، و.. «     »!!

ولم أتمالك نفسى فأبديت ملاحظة تساءلت فيها: «هل هذا معقول؟!».

وكانت المفاجأة أن الرئيس «مبارك» رد بقوله: «أنت لا تعرف «زكى بدر» ــ لسانه مفلوت و(......)، وكانت كلمات الرئيس فى وصف وزير داخليته «أصعب» مما قاله «زكى بدر» عن «سراج الدين»، ولاحظ «مبارك» بسكوتى أننى مأخوذ مما سمعت منه هو أيضا، ثم كان تعليقه الأخير «لا مؤاخذة يا محمد بك»، يظهر أن «الكتابة» تعلِّمكم الشعر، ولا تعرِّفكم «عن الدنيا وما فيها»!!


ثورة 1919

●●●

واتصلت بالأستاذ «فؤاد سراج الدين»، أرجوه نقلا عن الرئيس أن يعتبر المسألة منتهية، وأن «زكى بدر» على ما أظن اعتذر له.

وقال لى «فؤاد سراج الدين»: «الرئيس «مبارك» كلمنى فورا، وسألنى إذا كان «زكى بدر» قد اعتذر لى، وإذا كنت قبلت اعتذاره!!».

وأضاف «سراج الدين»: أنه يقترح أن نلتقى ظهر اليوم التالى على الغداء فى بيته ونتحدث فى هذا الموضوع، وفى غيره من هموم الساعة، وعلى الغداء فى بيته فى «جاردن سيتى» التقينا فى اليوم التالى، وكنا على المائدة خمسة:

«فؤاد سراج الدين» نفسه ــ والسيدة «ليلى المغازى»، وهى صديقة عائلية قديمة رأت أحوال الفوضى فى حياة ذلك السياسى المخضرم بعد وفاة زوجته السيدة «زكية البدراوى»، خصوصا وهى تعرف أن صحة ابنته الكبرى «نائلة» لم تكن على ما يرام، كما أن ابنته الثانية «نادية» متزوجة وتعيش فى الكويت ــ وكذلك اقتربت هى من حياته ترتب شئون بيته.

وكان الثالث هو الصديق ورفيق السجن المشترك «عبدالفتاح حسن» (باشا) قطب حزب الوفد السابق، ووزير الدولة مع «فؤاد سراج الدين» فى وزارة الداخلية، لأن «فؤاد سراج الدين» كان مسئول وزارتين فى وزارة «مصطفى النحاس» (باشا) الأخيرة وهما: المالية والداخلية.

ثم قرينتى وأنا.

وراح «فؤاد سراج الدين» يحكى منذ اللحظة الأولى.

حكى كيف وصله شريط التسجيل (من ضابط بوليس كبير يعرفه منذ كان هو نفسه وزيرا للداخلية قبل الثورة!).

وكيف اتصل به «زكى بدر» يحاول التنصل من الاعتذار بأن الشريط مزور، وأنه قال له «إنه كوزير سابق للداخلية لا يرضى لوزير لاحق ــ أن يراوغ كما يراوغ أى متَّهم أمام مأمور القسم الذى احتجز فيه!».

ثم وصل «سراج الدين» إلى اتصال «مبارك» به، وإذا «فؤاد سراج الدين» يسمع من الرئيس «مبارك» مثلما سمعت قبله فى وصف رئيس الدولة لوزير داخليته.

وقال «فؤاد سراج الدين» إنه سأل «مبارك» ــ «إذا كان ذلك رأيك فيه، فلماذا لا تغيره؟!!».
ورد «مبارك» بأن:

«كلهم رشحوه كضابط بوليس قادر على مواجهة حالة الإرهاب فى البلد، لكنه الآن يفكر جديا فى تغييره».

وواصل «فؤاد سراج الدين»:

«إن الرئيس سأله بعدها إذا كان لديه مرشح يصلح؟!».

وأجابه «فؤاد سراج الدين»:

«إن الرئيس يستطيع اختيار أى خفير فى أى بندر، ولن يكون اختياره أسوأ من اختيار «زكى بدر».
وتطوَّع «عبدالفتاح حسن» (باشا) يقول موجِّها كلامه إلى «فؤاد سراج الدين»:

«ولِمَ لمْ ترشح له (يا باشا) أحدا تعرفه بجد؟!».

ورد «فؤاد سراج الدين»، وفى رده تجربة سياسى مخضرم:

«هل يُعقل أن يطلب رئيس دولة من معارض له أن يختار مسئولا عن أمنه، بينما هو يعتبر بالتأكيد أن هذا المعارض خطر سياسى عليه؟!».

ومضى «فؤاد سراج» ملاحظا:

«أنه يستغرب أن يتخلى رئيس بهذه الطريقة عن مرءوس له، حتى وإن أخطأ، وإنما الصواب أن يقوم بتصحيحه فيما بينهما، ومن المعقول أن يطلب إليه الاعتذار لمن أساء إليهم، ولكن لا يكشفه أمام المعارضين ويطلب منهم ــ بديلا يحل محله!!».

وأضاف:

«إما أن «مبارك» لا يقصد ما يقوله، وما طلبه منى «فك مجالس»، وهذا سياسيا لا يجوز، وإما أنه على استعداد لأن يرمى أى واحد من رجاله فى البحر لتخف حمولة قاربه، وهذا لا يطمئن!!».

●●●

وكان ظنى وقد قلت يومها على الغداء فى بيت «فؤاد سراج الدين» «إنه ليكن ما يكون، وإننى لست مختلفا معه فيما قال، لكن البلد أمام مشكلة حقيقية».

ــ نعم الرجل لديه أسباب للقصور كلنا نراها.

ــ لكنه فى المقابل فإن الرجل يرأس الدولة المصرية فعلا، وليس هناك غيره.

ــ ومن الناحية الأخرى فليست هناك بدائل هذه اللحظة، بل ليست هناك وسائل إلى هذه البدائل.

ــ والظروف فى البلد دقيقة وشديدة، لأن أحدا لا يعرف على وجه التحديد ما يكفى من الحقائق وراء الظاهر مما يراه!!

واتفق «فؤاد سراج الدين» معى فى أشياء واختلف فى أشياء، وكان خلافه فى الأساس قولى «إنه ليس هناك بديل»، وظنه أن حزب الوفد ليس فقط البديل، ولكنه الأصل الشرعى الموجود.

وكان ذلك موضوعا خلافيا بين «فؤاد سراج الدين» وبينى، فقد كان رأيى أن استحضار الماضى مثل استحضار الأرواح غير مقنع فى أبسط الأحوال!!

وقد يصبح حزب الوفد نداء لنوع من الديمقراطية، لكنه يصعب علىَّ أن أراه نداء لشكل المستقبل.

والحقيقة الراهنة أن «مبارك» هو الرئيس، وإلى جانب ذلك فليس فى مقدورنا أن نساعده، لأن كلانا لديه تحيزات مسبقة من تأثير انتمائه إلى مرحلة معينة فى التاريخ المصرى، ومع تسليمى بتواصل المراحل، فإن كل مرحلة لها خصائص، وأيضا لها مسئوليات!!

وكان اقتراحى على «فؤاد سراج الدين» «أن يحاول كل من يستطع مساعدة الرجل على أن ينمو بتجربته الخاصة، وذكَّرته بالرئيس الأمريكى «هارى ترومان» الذى كان نائبا للرئيس، ثم رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية بعد وفاة قائدها الأشهر «فرانكلين روزفلت» ــ بينما الحرب العالمية الثانية ضد «هتلر» مازالت تجرى، و«روزفلت» كان قائد التحالف الكبير الذى يخوض الحرب ضد «هتلر»، وهناك قرارات كبرى تنتظر أمره، وأولها قرار استخدام الأسلحة النووية لأول مرة فى حرب (ضد اليابان)».

وأضفت «أن «ترومان» بدا لكل المهتمين بمستقبل العالم ــ آخر رجل يمكن الاعتماد عليه فى قيادة معركة المستقبل العالمى، سواء لإنهاء الحرب أو بعدها، حتى وإن لم يكن سلاما، لكن النخبة فى الولايات المتحدة وقفت مع الرئيس الجديد وأعطته الفرصة، وقد كبر الرجل ونضج بتجربة المسئولية، وأصبح من أبرز الرؤساء الأمريكيين فى القرن العشرين».

ولم يبدُ على «فؤاد سراج الدين» أنه اقتنع بإمكانية أن يتحول «حسنى مبارك» إلى «هارى ترومان» مصرى.

وتدخَّل «عبدالفتاح حسن» (باشا) فى الحوار مرة ثانية، يقول موجِّها الكلام لـ«فؤاد سراج»:

«ما رأيك يا باشا أن ينضم («هيكل») إلى الوفد، ويكون من ذلك لقاء بين الثورتين (يقصد سنة 1919 وسنة 1952) ــ وفى حين أن «فؤاد سراج الدين» التفت متحمسا إلى السيدة «ليلى المغازي» يطلب منها أن تذهب بسرعة إلى غرفة مكتبه وتجىء باستمارة عضوية لحزب الوفد ــ فقد قلت من جانبى: «إن «عبد الفتاح حسن» (باشا) لا يريد أن يقتنع بأنى صحفى فقط، لا دخل له بالتنظيمات السياسية، إلى جانب أننى من مؤيدى ثورة سنة 1952 ولكنى لا أمثلها، وفوق ذلك فهناك قناعتى بأن كلا من الثورتين 1919 و1952 قد استوعبها التاريخ المصرى وهضمها، ودخلت عصارتهما فى عروقه، والآن زمان جديد!!».

وكالعادة فى مثل هذه المناقشات لم نصل إلى شىء، وقُصارى ما اتفقنا عليه بعدها: فنجان قهوة ودخان سيجار!!


الجنرال بوفر

●●●

وبعد أيام قليلة عاود «مبارك» اتصاله بى، فقد اتصل يشكرنى أننى طلبت موعدا معه لصديق عزيز يزور مصر، وهو الأمير «صدر الدين أغاخان»، وكنت قد طلبت الموعد عن طريق «أسامة الباز»، وتحدد فعلا، وقابله «مبارك»، والآن كان «مبارك» يتصل بى يشكرنى أن أتحت له الفرصة يقابل رجلا مثل «صدر الدين أغاخان» الذى وجده «رجلا عظيما!!».

وقال الرئيس «مبارك» على التليفون: «إن «الرجل» يعرف الكثير، وشخصيته آسرة، وهو متواضع رغم أنه أمير».

وقلت: «إنه بصرف النظر عن مسألة الإمارة فإن «صدر الدين أغاخان» رجل متحضر، وقد عاش تجربة إنسانية كبيرة، عندما قام على مهمة مفوض الأمم المتحدة لشئون اللاجئين، فذلك أتاح له أن يتحرك على اتساع القارات» ــ أضفت: «إن «صدر الدين أغاخان» تحمَّل هذه المهمة بلا مقابل، وحين قيل له إن لكل منصب عقدا، وكل عقد له مرتب ــ فإنه طلب أن يكون مرتبه فى العقد دولارا واحدا كل سنة».

وقال «مبارك»: «هو غنى جدا كما عرفت من «أسامة»، و«أسامة الباز» قال لى إن أتباع مذهبهم يزنونهم بالذهب كل عام».

ثم أضاف: «أنه استفاد من لقائه، واستمتع به» ــ ثم تساءل: «لم يعد هناك ناس كثيرون بهذا الشكل؟!!».
وقلت: «إن الناس موجودين» ــ أضفت: «أن مصر ملأى برجال ونساء لهم قيمة، لكنه لا يراهم».

وسأل: «وكيف نعثر عليهم؟!».

ووجدتها فرصة لأطرح عليه اقتراحا ظننته نافعا.

وسألته: لماذا لا يدعو على غداء أو عشاء أو حتى فنجان شاى، عشرة أو اثنى عشر رجلا أو امرأة من شخصيات مصر مرة كل شهر ــ يعرفهم ويستمع إليهم ويتحاور معهم؟!!

مفكرون ــ أساتذة جامعات ــ رجال أعمال ــ ساسة، حتى ولو كانوا معارضين.

قلت له: «إنه يتعامل مع كل الناس من خلال قنوات رسمية، أو بالأدق من خلال قناة واحدة فى مكتبه، ومع تقديرى لنشاط رجل مثل «أسامة الباز»، فمن حق الرئيس أكثر مما هو واجبه ــ أن يتوسع فى دائرة من يعرف».

وقلت له: «إن الرئيس «چون كنيدى» كان يتبع هذا التقليد».

غداء أو عشاء أو فنجان شاى منظم كل شهر مع مجموعة متنوعة من عناصر الفكر والفعل فى البلد، ومن خارج المجال الرسمى.

رد بعد قليل: «إن كل هؤلاء سوف يخرجون ويملأوا الدنيا كلاما معظمه «هجص».

وقلت: بإذنه فإنه يظلم الناس، ومع ذلك فماذا يحدث لو تكلموا أو تكلم بعضهم، ثم إن ذلك ربما يحدث فى بداية التجربة، لكنه عندما تتعود النخب على لقاء رئيس الدولة ويسمع منها وتسمع منه فإن التجربة سوف تأخذ مسارها الطبيعى، ولا تعود عجبا يستوجب كثرة الكلام!!».

قلت أيضا: «إنه إذا كان قد استفاد من لقائه مع «صدر الدين أغاخان»، فإن كثيرين من العالم الخارجى ــ مجموعة شخصيات متنوعة ومنتقاة يمكن دعوتها للقائه فى مصر ولأحاديث مفتوحة معه». وأضفت «أننى فعلت ذلك مع «جمال عبدالناصر» ورتبت لكثيرين من نجوم ذلك العصر أن يجيئوا إلى مصر ضيوفا علينا ويلتقون به، بحيث تحتك أفكار بأفكار، وتتلاقى عقول مع عقول، وإنى أتذكر أن «جمال عبدالناصر» استفاد من رجال ونساء دعوتهم إلى مصر، ومنهم على سبيل المثال الماريشال «مونتجمرى» ــ والچنرال «بوفر» ــ و«چان بول سارتر» ــ و«سيمون دى بوفوار»، وصحفيين عالميين من أمثال «والتر ليبمان» ــ و«ساى سالز بورجر» ــ و«دنيس هاملتون» وساطع الحصرى وقسطنطين زريق وكلاهما من جيل المفكرين القوميين الكبار، وكثيرين غير هؤلاء.

وسكت «مبارك» قليلا، ثم تساءل:

«ولماذا لا تفعل نفس الشىء الآن؟!» ــ ثم أضاف «أننى عرضت عليك أن تدخل الحزب ومن داخله تستطيع أن تتصرف».

وقلت: سيادة الرئيس.. أولا أنا لم أنتمِ حزبيا طول عمرى. وثانيا فإننى لا أستطيع أن أكرر معك ما فعلته مع «جمال عبد الناصر»، لأن التاريخ لا يعيد نفسه على حد ما قال «كارل ماركس»، التاريخ لا يعيد نفسه وإذا فعل فهو فى المرة الأولى دراما مؤثرة، وفى المرة الثانية مهزلة مضحكة!!».

وأدهشنى تعليقه:

«الله.. تستشهد بـ«كارل ماركس»؟!».

ثم كان اقتراحه ـ تكرارا لسابقة فى ذاكرتى، أن يبعث إلىَّ بـ«أسامة الباز» أتحدث معه فيما أتصوره لتنفيذ ما اقترحه.


هيكل وتوفيق الحكيم وسارتر وسيمون دي بوفوار

●●●

وجاء «أسامة الباز» فعلا، ومعه نفس الدفتر الأصفر مما يستعمله رجال القانون فى أمريكا، لكنه لم يخرج قلما من جيبه، وإنما راح يحاورنى وهو يجلس أمامى ويهز رأسه على طريقته «عندما يواجه معضلة»، ويقول:

«أنت تتعب نفسك، وتتعب الناس معك دون داعٍ ــ هو لن يقابل أحدا، قد يكون «انبسط» من مقابلة «صدر الدين أغاخان»، لكن هؤلاء ليسوا نوع الناس الذين يستريح معهم».

وقاطعته: لماذا تفترض ذلك، دع الرجل يرى ويسمع ويعرف أن البلد والعالم ملأى برجال ونساء يستطيع أن يتعلم منهم!

ثم قلت: «أسامة» لديك فرصة «تأهيل» رئيس..!

وبدوره قاطعنى «أسامة»: «أنا أعرفه أكثر منك، وصدقنى هو لا يستريح إلا لمن يعرفهم، وأما غيرهم فهو من الأصل لا يشعر معهم بالاطمئنان».

وأظن أن «أسامة» كان يعرف أكثر، فلم أسمع بعدها عن الفكرة، لا من «مبارك» ولا من غيره!

الجمعة، 27 يناير 2012

ما هي الأطعمة التي تزيد من طول شعرك؟

ما هي الأطعمة التي تزيد من طول شعرك؟

نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة



يحتاج الشعر الطويل والصحي إلى تناول العديد من العناصر الغذائية الضرورية، مثل البروتين، والكربوهيدرات المركبة، والدهون، والمعادن، والفيتامينات. وكل هذه العناصر تعمل على الحفاظ على طول، وصحة، ولمعان الشعر.

وقد يتعرض الشعر للسقوط أو قلة النمو بسبب سوء التغذية، أو اتباع حمية غذائية قاسية، أو بسبب المرض. ففي هذه الحالات يعمل الجسم على توزيع العناصر الغذائية التي يستقبلها على أعضاء الجسم الحيوية، وما يتبقى من تلك العناصر يذهب إلى الشعر والأظافر. لذا يجب المحافظة على تناول الغذاء الصحي الغني بالعناصر الضرورية لصحة ونمو الشعر، وهي الأغذية الغنية بالأوميجا 3، وفيتامينات (أ) و (ب) و (ج)، وكذلك الحديد. ومن أفضل الأطعمة الغنية بهذه العناصر:


• الجزر
يعتبر الجزر مصدراً هاماً لفيتامين (أ) الذي يحافظ على صحة فروة الرأس ولمعان الشعر.

• الحمضيات
تحتوي الحمضيات على نوع من سكر الجلوكوز يسمى الإينوسيتول inositol، والمعروف أيضاً بفيتامين Bh، ويعمل هذا النوع من الجلوكوز على تقليل نسبة الكولسترول الضار في الدم، وكذلك منع تساقط الشعر والحفاظ على صحة الشعر.

• الخضروات الورقية
تحتوي الخضروات الورقية كالسبانخ والجرجير والسلق، على فيتامينات (أ) و(ج)، مما يساعد فروة الرأس على إفراز الزهم. والزهم مادة دهنية تفرزها جريبات الشعر، وتعمل كمرطب طبيعي للشعر. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الخضروات غنية بالكالسيوم والحديد، وهما من العناصر الضرورية لنمو الشعر.

• الفلفل الرومي
الفلفل الرومي غني بفيتامين (ج)، حيث تحتوي ثمرة الفلفل الرومي الواحدة على كمية من فيتامين (ج) تساوي الكمية الموجودة في كوب كامل من عصير البرتقال. ومن المعروف أن فيتامين (ج) أحد مضادات الأكسدة القوية التي تساعد على تنشيط الدورة الدموية بفروة الرأس ومنع تساقط الشعر، لذا احرصي على تناول الفلفل الرومي الطازج بدون طهي لأن الطهي يعمل على تكسير بعد المواد الغذائية الموجودة به.

• المكسرات والأفوكادو
المكسرات والأفوكادو من الأغذية الغنية بفيتامين (هـ) الضروري لنمو الشعر بشكل صحي. احرصي على تناول الأفوكادو الطازج والمكسرات بانتظام.

• عصير الكريز
عصير الكريز من المصادر الغنية بالحديد، وهو العنصر الأساسي لمنع تساقط الشعر. فاحرصي على أن يحتوي نظامك الغذائي على كمية كافية من الحديد لتجنب الإصابة بالأنيميا.

• التوت
يحتوي التوت بأنواعه على مضادات الأكسدة التي تعمل على زيادة نمو الشعر وصحة فروة الرأس.

• الجوز وزيت الكتان
يعتبر الجوز وزيت بذر الكتان من المصادر الغذائية الغنية بالأحماض الدهنية غير المشبعة (الأوميجا 3)، والتي يؤدي نقصها في الجسم إلى جفاف فروة الرأس، وفقدان الشعر للمعان.

احرصي على إدخال كل تلك الأطعمة والخضروات في نظامك الغذائي بانتظام للحصول على شعر طويل وصحي.

الأربعاء، 25 يناير 2012

حمد حسنين هيكل (الحلقة السادسة) : مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان .. فى باريس حگايات أخرى!

مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان (الحلقة السادسة) .. فى باريس حگايات أخرى!
ربما كان اختيار «مبارك» دون غيره من «المرشحين المحتملين» نوابا لرئيس الجمهورية ــ مفاجئا لى (رغم كل ما كنت عرفته من علاقات سابقة بين الرجلين، خصوصا تلك التجربة المشتركة فى «الخرطوم»!)، لكن احتمال اختياره ــ كما أبدت لى الظروف ــ لم يكن على الأرجح مفاجئا لغيرى.

وفى الواقع فإن «احتمال اختياره» تبدَّت له أمامى إشارات عابرة، وفى بعض الأحيان غامضة، وكانت فى مجملها تكشف تباعا لمحات يصعب إهمالها ــ وكانت فاتحة الإشارات ما حدث ذات صباح من يناير 1982 فى قصر «الإليزيه» فى باريس، وكنت على موعد مع «فرانسوا ميتران»، وكانت تلك مقابلتنا الأولى بعد أن أصبح رئيسا لفرنسا.

كنت قد عرفت «فرانسوا ميتران» مبكرا عندما كان رئيسا للحزب الاشتراكى، ودعوته لزيارة القاهرة، ولبَّى الدعوة، ومن يوم 25 يناير 1974 ولعشرة أيام كان الرجل ضيفا على «الأهرام» وعلىَّ فى مصر، وبالطبع كنت ألقاه كل يوم تقريبا، كما رتبت أن يشارك فى جلسات متعددة مع خبراء من مركز الدراسات السياسية والإستراتيچية ــ ومع عدد من مفكرى «الأهرام» وقتها، وفى هذه الجلسات جرت مناقشة قضايا عديدة سواء فى السياسة الدولية، أو فى التحولات الكبرى التى ظهرت بوادرها على الأفق مع تلك المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة.

وقد كتب «ميتران» بعد ذلك فى كتاب له عنوانه «حبة فى السنبلة» ــ فصلا كاملا عن لقاءاتنا معا، وعن الحوارات التى شارك فيها مع من دعوت من زملائى، كما أنه اهتم فى هذا الفصل من الكتاب طويلا بالعلاقة التى رآها بين الرئيس «السادات» وبينى، وكنت قد اصطحبت الزعيم الاشتراكى معى إلى مقابلة معه فى بيته فى الجيزة.

وبعد تلك الزيارة إلى مصر أوائل سنة 1974، فإن علاقتى مع «فرانسوا ميتران» توطدت أكثر بلقاءات متكررة فى باريس معظمها فى بيته فى حى «سان چيرمان»، حيث كنا نجلس ساعات الصبح فى مكتبه بالدور العلوى من بيته، ثم نخرج مشيا على الأقدام إلى الغداء فى مطعم «ليب» على ناصية قريبة، ونجلس لحديث يسترسل دون مقاطعة ودون تحفظ.

فرانسوا ميتران 

***

وفى مايو 1981 ــ انتخب «ميتران» رئيسا لفرنسا، ثم وقع بعدها بأسابيع أننى وجدت نفسى فى سجن «طرة» مع كثيرين. ومن وراء الأسوار فى «طرة» تسرب إلينا أن الرئيس «ميتران» اتخذ موقفا معارضا ومعلنا ضد اعتقالات سبتمبر فى مصر، وبلغنا أنه دعا المكتب السياسى للحزب الاشتراكى لاجتماع خاص، وأدان هذه الاعتقالات، ولم يكن «ميتران» يستطع إعلان إدانته لها كرئيس للدولة الفرنسية، وكان حله أن يعلنها كرئيس للحزب الاشتراكى، ووصل إلينا أيضا أن الرئيس «السادات» غضب وهدد بقطع العلاقات مع فرنسا، لأنها تدخلت فى الشأن المصرى، حتى وإن كان رئيس الدولة الفرنسى قد أبدى رأيه بوصفه رئيسا للحزب الاشتراكى!

***

وهكذا ومع أول رحلة قمت بها لأوروبا بعد الإفراج عنا ــ بعثت إلى الرئيس «ميتران» فى يناير 1982 أبلغه بموعد قدومى إلى «باريس»، ومدة بقائى فيها، تاركا له أن يحدد موعدا نلتقى فيه، ثم كان أن اتصل بى مكتبه يبلغنى دعوة على الإفطار مع الرئيس فى الساعة الثامنة والنصف «صباح الاثنين المقبل».


وعلى الإفطار ومع حديث استمر أكثر من ساعة ونصف الساعة، سألنى «ميتران» عن علاقتى بالرئيس الجديد «مبارك»، وهل أنها طبيعية أو عاصفة، كما كانت مع الرئيس «السادات» فى سنواته الأخيرة، وقلت: «إننى التقيت الرئيس الجديد أخيرا ولعدة ساعات، وأنه يبدو لى رجلا معقولا، يستطيع أن يتعلم من منصبه ويكبر فيه» ــ ولاحظت أن «ميتران» يسمعنى مهتما، دون أن يبدو منه رد فعل، وكانت ملاحظته الوحيدة بإشارة سريعة قوله: «على أى حال إن بعض الناس عندنا يعرفونه جيدا».

وسألته عما يعنيه بهذه الإشارة، وكان رده بنصف ابتسامة، إيماءة إلى تعبير مأثور عن الكاردينال «ريشيليو» السياسى الأكبر فى بداية التاريخ الفرنسى، وهو تعبير Raison d’etat «أسباب دولة»، وتشعب بيننا الحديث، لكنه لفت نظرى أن «ميتران» ذكر أكثر من مرة بعد ذلك اسم الكونت «ألكسندر دى ميرانش» الذى كان مديرا للمخابرات الخارجية الفرنسية SDECE، وبتجربة صحفى فقد راودنى الإحساس بأن هناك فى باريس مَنْ يعرف أكثر عن الرئيس المصرى الجديد، وأن «دى ميرانش» أحدهم.

***

وكنت أعرف الكونت «ألكسندر دى ميرانش» من تجربة سابقة رتب لها ــ أيضا ــ رئيس فرنسى (سابق) ــ هو الرئيس «چيسكار ديستان»، الذى قابلته منذ خمس سنوات، وفى صالون نفس المكتب (الذى أقابل فيه «ميتران» الآن).

وفى ذلك اللقاء مع «چيسكار ديستان» كنا جالسين فى الصالون الملحق بالمكتب الرئاسى على مقعدين متواجهين وبيننا مائدة للشاى من طراز «لويس الخامس عشر»، وتحت «چيسكار ديستان» رقدت كلبته «أنتيجون»، وقد أراد تبرير وجودها بأنها لا تستطيع أن تبتعد عنه، بل هى دائما وراءه من غرفة نومه إلى قاعة مكتبه، وحين ناولها قطعة صغيرة من فطائر وضعوها فى طبقه، وجد مناسبا ــ فيما أظن ــ أن يشرح لى مبررا إضافيا لحضورها قائلا: «هى لا تتكلم، وإخلاصها بغير حدود وكتمانها مضمون ومأمون» ــ ثم أضاف: إن ذلك الإخلاص المتجرد نادر فى العلاقات بين البشر!!).

وطال الحديث وتشعَّب وبدا لى أن الرئيس «ديستان» مشغول بأفريقيا، وحديثه مركز عليها، واعتقاده أن تغلغلا شيوعيا يتسرب حثيثا إليها، ثم إلحاحه: «أن العرب يجب أن يتمثَّلوا خطورة الأوضاع فى أفريقيا، لأن التحدى الذى يواجهه العرب والغرب معهم ــ تحدٍ خطر!!».

وأسهب الرئيس «ديستان» فى الشرح: «1ـ قناة السويس مازالت مغلقة، رغم انتهاء حرب «يوم الغفران» (هكذا وصف الرئيس الفرنسى حرب أكتوبر).

2ـ وإمدادات النفط من الخليج تضطر للدوران حول أفريقيا عن طريق «رأس الرجاء الصالح» لكى تصل إلى أوروبا وإلى أمريكا. وأمريكا تستطيع أن تستغنى عن البترول العربى مؤقتا، وأما أوروبا فذلك بالنسبة لها مستحيل.

ودوران ناقلات البترول حول أفريقيا على الممرات البحرية المحيطة بالقارة مكشوف أمام نشاط سوڤييتى يتغلغل فى القارة بجهد يزيد، خصوصا فى القرن الأفريقى، وبالتحديد فى أثيوبيا (وكان نظام «منجستوهيلا مريم» يحكمها وهو لا يخفى هويته الشيوعية).

3 ــ وأوروبا لا تستطيع أن تقبل هذا الانكشاف للممرات البحرية التى تسير عليها ناقلات البترول الغربية.

وبما أن فتح قناة السويس أمام ناقلات البترول مازال معلقا، لأنه مرهون باتفاقيات سلام بين مصر وإسرائيل مباشرة، وبين العرب وإسرائيل بطريق غير مباشر ــ إذن فإن الضرورات تفرض الحد من النفوذ السوڤييتى داخل القارة بكل الوسائل.

4 ــ إن فرنسا اهتمت منذ «ديجول» بوجود سياسى فرنسى ومؤثر فى القارة يحفظ مصالح كثيرة، ويحفظ كذلك صلات حضارية لها قيمتها، وذلك ما دعا «ديجول» إلى إنشاء منظمة «الفرانكفونية»، لكن هذه المنظمة قاصرة فى فعلها السياسى على عكس منظمة «الكومنولث»، لأن الأقاليم الإنجليزية من أفريقيا (يقصد الدول الأفريقية التى كانت تخضع للاستعمار البريطانى، والتى اعتمدت اللغة الإنجليزية)، انضمت إلى «الكومنولث» البريطانى (وهو تنظيم اقتصادى)، فى حين أن فرنسا اختارت الثقافة رابطا عن طريق منظمة «الفرانكفونية»، باعتبار اللغة الفرنسية أساسا مشتركا، لكن «الفرانكفونية» غرقت فى الأدب والثقافة، ونسيت الإستراتيچية والسياسة، ربما تحت تأثير «سنجور» (زعيم السنغال)، ويستدرك الرئيس الفرنسى: لا تنس أن «سنجور» شاعر! ـ وإذا كان ذلك، فقد كانت تكفينا عضوية «اليونيسكو» (منظمة الثقافة والعلوم)، دون داعٍ لـ «الفرانكفونية» ــ  وسألنى «جيسكار ديستان» إذا كان عندى ما يمنع من مقابلة «ألكسندر دى ميرانش»، مع العلم بأنه مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، لأنه الرجل الذى يعرف أكثر من غيره عن الخطر السوڤييتى فى أفريقيا، وطرق التصدى له! ــ (وكانت تلك أول مرة أسمع فيها اسم الرجل أو أعرف شيئا عنه).

وقلت «إننى أقابل كل من أستطيع أن أعرف منه جديدا».

***

وعلى أى حال فقد انتهت مقابلتنا يومها، بأن قال لى الرئيس «ديستان»: إنه سوف يطلب إلى «ألكسندر»، وهو يقصد الكونت «ألكسندر دى ميرانش» أن يتصل بى فى الفندق الذى أقيم فيه.

وكذلك قابلت «دى ميرانش» لأول مرة، ومن المصادفات أننى عرفت منه قرابته (ابن عم) لصديقة قديمة هى الكونتيسة «تيريز دى سان فال» وهى ــ وقتها ــ مديرة النشر فى «فلاماريون» أكبر دور النشر فى فرنسا، وهى تحوز حق نشر كتبى فى اللغة الفرنسية.

وعندما جاء «دى ميرانش» إلى لقائى فى فندق «الكريون» (الذى كنت أقيم فيه)، إذا هو يدعونى إلى صالون حجزه فى نفس الفندق لكى نتحدث بعيدا عن الجالسين غيرنا فى صالون «الإمبراطورية» حيث انتظرته، وظهر أن أحد مساعديه رتب ــ حيث حجز ــ شاشة عرض ظهرت عليها خريطة أفريقيا وخطوط طرق الملاحة البحرية حولها، مع بيان لعدد وحمولة ناقلات البترول التى تتقاطر على مسالكها كل يوم.

وجلسنا أمام الشاشة الكبيرة، وراح «دى ميرانش» يشرح والخرائط على الشاشة تتغير، وبعض الصور تظهر ومعها لمحات من وثائق وجداول وأرقام، متوافقة مع سياق العرض!!

ــ وكان «دى ميرانش» يتدخل بين الحين والآخر بتعليقات فيها التركيز الشديد على أن فرنسا مازالت قوة كبرى، حتى وإن قبلت باستقلال مستعمراتها!!

ــ وأن أفريقيا مازالت تهمها (وهى لا تستطيع أن تنسحب منها كما فعلت فى آسيا عقب استقلال «ڤيتنام»).

ــ وأن «فرنسا» دولة متوسطية لا تقبل بأى خطر يهدد المتوسط ــ والمتوسط هو «سقف» أفريقيا!!

***

وانتهى العرض وراح «دى ميرانش» يتوسع فى الشرح بأن «فرنسا» هى أكبر مستهلك للطاقة فى القارة الأوروبية، وهى لا تملك مباشرة نفوذا على مصادرها فى الخليج، ولذلك فإن حياتها وحياة المجتمع الأوروبى الذى تنتمى إليه معلقة على بتروله، وهى تعتبر نفسها شريكا رئيسيا فى تأمينه، وفى ذلك فإنها تتعاون مع عدد من دول المنطقة، وقد أنشأوا معا «تعاون فعل» (Cooperation D’action).

أضاف «دى ميرانش» أنه من حسن الحظ أن بعض القوى المعنية فى الشرق الأوسط دخلت مع فرنسا فى هذا «التعاون فى الفعل»، وأن «فرنسا» هى التى أقنعت أمريكا وإسرائيل بأن لا تدخلا ضمن مجموعته، حتى لا تؤثر شكوك العرب فيهما على صدق «تعاون الفعل»، بل وقع الاتفاق على أن تكون كلاهما ــ الولايات المتحدة وإسرائيل ــ على علم ــ ومن مسافة بما تقوم به المجموعة، وهذا ضرورى حتى لا يحدث صدام بين الخطط فى الظلام.

وقال «دى ميرانش»: «إنهم اختاروا للمجموعة عنوان «سفارى» (السفر فى الغابات)، لأن نشاط المجموعة الأصلى فى أفريقيا، وقد اختاروا اسما رومانسيا «بالكود» لا يستطيع تحديد معناه أحد إلا إذا كان طرفا فى اللعبة!!

وأضاف «دى ميرانش» أنه من حسن الحظ أن رجالا مثل الملك «الحسن» (فى المغرب)، والملك «فيصل» (فى السعودية)، والشاه «محمد رضا بهلوى» (فى إيران)، والرئيس «السادات» (فى مصر) ــ توفر لديهم بُعد النظر والجسارة لكى يتعاونوا مع فرنسا فى هذه المهمة التى تعنيهم وتؤثر على مصالحهم الحيوية!!

واستطرد «دى ميرانش» إلى تحديد المخاطر التى تهدد أفريقيا، بلدا بعد بلد، وكان تركيزه على القرن الأفريقى واضحا، وبعده على الكونجو وأنجولا.

وقال «دى ميرانش»: هذا فى الواقع «تعاون فعل» إستراتيچى، يحقق مصالح مشتركة، ولذلك فإن تنفيذه تم بمعاهدة خاصة ومغلقة بين الدول الخمس.

وسألته ــ دون تعليق حتى لا أصد تدفقه فى الشرح ــ عما إذا كانت الدول العربية التى وقَّعت على الاتفاق (فى الواقع معاهدة) تعرف أن هناك تنسيقا مع الولايات المتحدة ومع إسرائيل، وكان جوابه دون تردد:

«إنهم بالطبع يعرفون، لكننا أعفيناهم جميعا من الحرج، وعهدنا بالتنسيق مع أمريكا إلى «إيران»، ثم إن الولايات المتحدة فى إطار علاقاتها الخاصة مع إسرائيل تتولى إحاطتها علما بما يصح لها أن تعرفه!».

***

وكان «دى ميرانش» يظهر اهتماما خاصا بالسعودية، لاعتقاد عنده ــ أفاض فى شرحه ــ بأن الإسلام يجب أن يلعب دورا أساسيا فى حماية النفط، وكان قوله «إنه من حسن الحظ أن أكبر منتج للنفط هو نفسه بيت الأماكن المقدسة لدى المسلمين، و«فرنسا» لا ترى على الإطلاق صداما بين الإسلام وأوروبا، وبالعكس فإن «فرنسا» من أنصار حوار أديان بين الإسلام والغرب، وقد بدأوا بالفعل جهودا مشتركة مع علماء السعودية، وهذه الجهود تلقى تشجيعا من مصر (وكان ذلك صحيحا وإن كان علماء السعودية قد استشعروا الحرج من هذا الحوار، وكان أن أحد مشايخ الأزهر السابقين تحمس لمواصلته فى مصر، وأنشأ فى تلك الجامعة الإسلامية العريقة (الأزهر) مركزا خاصا لهذا الحوار!).

كان رأى «دى ميرانش» وقد قارب على نهاية عرضه «أن المفكرين العرب لابد لهم أن يساعدوا على تفاهم حضارى، بين روح الإسلام وروح أوروبا». أضاف أن «مصر» لها جهود سابقة فى هذا المجال منذ «ذهاب نابليون بونابرت» إلى مصر، وصحيح أن جهود مصر السابقة كانت مدفوعة بمطلب التنوير، إلا أن إرث الثقافة لابد أن يؤدى إلى حماية المصالح الحية لأصحابه»!!

وكنت أسمع باهتمام متفكرا فى مقدرة الدول الكبرى على عرض مصالحها الدائمة فى ظروف متغيرة، وكيف تغطى فعل حرب خفية فى الواقع بغطاء الثقافة والحضارة ــ وحتى الأديان!!

(ثم لقيت «دى ميرانش» مرة ثانية بعد ذلك فى مكتبه، وكان هذه المرة قد أضاف إلى اهتمامه بأفريقيا اهتماما مستجدا بأمريكا الوسطى وبكوبا).

***

ومرت سنوات وتغيَّر ساكن قصر «الإليزيه»، وخرج «ديستان» ودخل «ميتران»، وجاء لقائى معه الذى أشرت إليه قبل قليل، والذى تحدَّث فيه بغموض عن «الذين يعرفون مبارك»، وعن مصلحة الدولة Raison D’Etat، وتردَّد فيه اسم «دى ميرانش» أكثر من مرة، وكذلك تصورت أن أحاول لقاءه مرة ثانية، وتوافقت الظروف مع المطالب فإذا بـ«دى ميرانش» نفسه يحاول مقابلتى، وكان وسيطه هذه المرة «ابنة العم» كما يسميها ــ الكونتيسة «تيريز دى سان فال» (مديرة النشر فى مؤسسة «فلاماريون»)، والتى اتصلت بى تقول «إن ابن عمها يرغب فى لقائى، لأنه يريد أن يصحح لى بعض ما نشرته فى كتابى عن الثورة الإيرانية «عودة آية الله» The Return of Ayatollah.

وكانت بعض الفصول من الكتاب قد بدأ نشرها فى جريدة «الفيجارو»، تمهيدا لصدوره عن دار «فلاماريون» ــ وكنت فى ذلك الكتاب قد خصصت فصلا كاملا تعرَّض لأول مرة لسر مجموعة «السافارى»، فقد اطلعت على نصوص المعاهدة التى أنشأت المجموعة، وكان اطلاعى عليها فى قصر «نياڤاران»، حيث المقر الرسمى لعمل ومعيشة شاه إيران، وكان «آية الله الخمينى» قد وجَّه بتسهيل اطلاعى على ما أريد من وثائق العصر الذى قامت الثورة الإيرانية لإسقاطه!

وكانت وثيقة إنشاء المعاهدة وتوقيعها فى اجتماع خاص عُقد فى «جدة»، وقد نشرت أهم نصوصها فى الكتاب، ومع النصوص أسماء من وقَّعوا عليها نيابة عن رؤسائهم، وكان نشر الأسماء قد أحدث ضجة كبرى ذلك الوقت، فقد كان الموقِّعون المفوضون خمسة:
ــ الكونت «دى ميرانش» نفسه (مدير المخابرات الخارجية الفرنسية) ــ عن الرئيس «ديستان».
ــ و«كمال أدهم» (مدير المخابرات العامة السعودية ـ عن الملك «فيصل»).
ــ والچنرال «أحمد الدليمى» (مدير المخابرات المغربية ــ عن الملك «الحسن»).
ــ والچنرال «نعمة الله ناصري» (مدير الساڤاك ــ المخابرات الإيرانية ــ عن الشاه «محمد رضا بهلوى»).
ــ ثم الدكتور «أشرف مروان» (مدير مكتب الرئيس للمعلومات ــ عن الرئيس «أنور السادات»).

***

والآن كان الموضوع الذى تضايق منه «ألكسندر دى ميرانش» وجاء يطلب تصحيحه، هو ما قلته عما جرى لأحد نوابه، وكيف سُرقت منه حقيبة أوراقه أثناء مروره من مطار «الدار البيضاء» عقب اجتماع سرى فى المغرب، ثم إن هذا الچنرال جرى لومه على أن عملاء سوڤييت (بالطبع ــ ومن غيرهم؟!!) استطاعوا أن يسرقوا حقيبة أوراقه، وفيها أسرار مهمة، وكنت فى الكتاب قد أضفت أن الچنرال الفرنسى المسئول جرى قتله بعد ذلك، وقيل إن ذلك كان عقابه!!

وكان ما ضايق الكونت «دى ميرانش» أن ما قلته فى الكتاب قد يوحى بأنه هو «دى ميرانش» ــ رئيسه المباشر ــ مَنْ أصدر الأمر بتصفيته عقابا له، والآن كان «دى ميرانش» يطلب منى أن أضيف توضيحا إلى الطبعة الفرنسية من الكتاب (على الأقل)، وقد عرف من ابنة عمه (الكونتيسة «دى سان فال» ــ مديرة النشر فى «فلاماريون») أنه على وشك الصدور، وإلا فإنه سوف يضطر آسفا إلى رفع قضية «قذف» على «فلاماريون» كناشر للكتاب، وعلىَّ معها كمؤلف له!!
وكان «دى ميرانش» فى ذلك الوقت، ومن قبل دخول «فرانسوا ميتران» إلى قصر «الإليزيه» قد اعتزل منصبه!
والآن أصبح حرا، وانفكت إلى حد ما عقدة لسانه، بل إن حديثه أصبح أكثر تدفقا وحيوية.

***

والتقينا ومعنا فى بداية اللقاء ابنة عمه «تيريز دى سان فال»، وكنا هذه المرة جالسين فى ركن على بركة السباحة فى حديقة فندق «ريتز» فى ميدان «فاندوم» الشهير، بعامود الصلب الذى صنعه «نابليون بونابرت» من المدافع التى غنمها فى معركة «استرليتز»!!
ومع أن موعدنا كان العاشرة صباحا، فقد أدهشنى أن «دى ميرانش» وقد سألته إذا كان يريد فنجان قهوة، أنه أجاب بسؤال عما إذا كان يضايقنى أن يطلب كأسا من «الويسكى».

وربما بتأثير ذلك الغموض فى إشارة الرئيس «ميتران» قبل أيام إلى أن هناك «عندنا من يعرفون الرئيس المصرى الجديد»، ثم تردد اسم «دى ميرانش» بعد ذلك مرتين على الأقل، أننى سألته مباشرة:
ــ يظهر أنك تعرف رئيسنا الجديد، كذلك أحسست من إشارة أثناء لقاء مع الرئيس الفرنسى «ميتران» أول هذا الأسبوع.
ونظر إلىَّ «دى ميرانش»، وعيناه تلمعان:
ــ طبعا.. طبعا أعرفه، لقيته فى إطار مجموعة «السافارى» التى أذكر أننى حدثتك عنها قبل سنوات.

فى البداية: كان «أشرف مروان» هو الذى يمثل الرئيس «السادات» فى المجموعة.
وبعد سنتين غاب «أشرف مروان» وحل محله «مبارك»!

***

ثم راح «دى ميرانش» يتحدث منطلقا فى الحديث، وربما طمأنه أنه الآن عرف أننى على اتصال برئيسين فرنسيين: «چيسكار ديستان»، والآن «فرانسوا ميتران».

وتحدَّث «دى ميرانش» عن نشأة المجموعة، وكيف أنها بدأت فى منتصف السبعينيات، وبعد سقوط الرئيس «ريتشارد نيكسون» بسبب فضيحة «ووترچيت» سنة 1974، وبسببها ــ أيضا ــ فإن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A) وهى العملاق الأكبر فى عالم المخابرات تعطَّلت، لأنها أصبحت موضع تحقيقات واسعة فى الكونجرس، بعدما ظهر تورطها فى العمل داخل الولايات المتحدة نفسها، على عكس قانونها ــ ثم زاد أن الرئيس الأمريكى الجديد ــ بعد خروج «نيكسون» من البيت الأبيض ــ وهو الرئيس «جيرالد فورد» قرر هو الآخر إنشاء لجنة خاصة ــ رأسها نائبه «نلسون روكفللر» ــ للتحقيق فى تجاوزات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التى طال لهذه الأسباب تعطلها، خصوصا بعد أن قام الكونجرس بتجميد الاعتمادات المالية المرصودة لها.

ويستطرد «دى ميرانش»:
«وفى ذلك الوقت وجدنا أننا من المحتم علينا أن نتحرك على مسئوليتنا، ودعونا أصدقاءنا وأصدقاء الولايات المتحدة كى يتعاونوا معنا، وكانت المملكة العربية السعودية جاهزة بالتمويل، وكنتم أنتم فى مصر مستعدين بمعسكرات التدريب، وكان المغرب مستعدا بعناصر بشرية، وكان شاه إيران داعما بكل الوسائل (At large).

وكان «أشرف مروان» ممثل مصر، ثم اختفى ــ كما قلت لك ــ وظهر «مبارك» نائب الرئيس.
ثم توقف «دى ميرانش» بطلب كأس آخر من الويسكى، ثم استأنف حديثه:
ــ «تسألنى عن «مبارك» ــ أعرفه ــ أعرفه طبعا يا صديقى، كان معنا فى جلسات «السافارى»، حيث عقدناها فى «جدة» مرات، وفى «القاهرة» مرات، وفى «طهران» مرات، وفى «المغرب» مرات، لكننا لم نعقد اجتماعات كثيرة فى «فرنسا»، حتى لا تتصور واشنطن أننا نريد هيمنة على المجموعة.

كانت الـ C.I.A حساسة جدا، مع أننا كنا نطلعهم على كل شىء، وكانوا يقومون بإطلاع إسرائيل التى طلبت أن تشارك فى نشاطنا، لأن لها موارد مخابراتية لها قيمتها فى أفريقيا، ولكننا اعتذرنا عن طلبها حتى لا تشعر السعودية بالحرج، ولم يكن هناك حرج لدى المصريين ولا لدى المغاربة، فلديهم علاقات مباشرة مع إسرائيل!».

وعاد «دى ميرانش» إلى ذِكر «مبارك»: «نعم.. نعم أعرفه، كان معنا لسنوات».

وارتكبت خطأ فيما أظن، فقد سألته عن مجال ما كان «مبارك» مهتما به، ويظهر أن السؤال أثار لديه طبائع رجل المخابرات، فقد توقف متحفظا «بأنه لا يستطيع أن يدخل فى تفصيل عمليات بالذات!».

وبينما كان لقاؤنا يقارب نهايته، أضاف «دى ميرانش» لمحة أخرى عن «مبارك» ـ فقد قال: «أنه «تابَع» «مبارك» منذ أن ظهرت صورته لأول مرة «أمامهم» فى أجواء صفقة طائرات «الميراچ» التى عقدتها ليبيا مع فرنسا سنة 1971، وهى صفقة كبيرة حجمها 106 طائرات».

وقال «دى ميرانش»: «كنا نعرف أن ليبيا تعقد هذه الصفقة لصالح مصر ولمساعدتها فى حرب 1973، ولذلك رحنا نراقب باهتمام، وفى الواقع فقد رصدنا وفد المفاوضات الذى بدأ التفاوض فى الصفقة مع شركة «طومسون» وكانوا جميعا ضباطا من سلاح الطيران المصرى «أعطوهم» جوازات سفر ليبية لإقناعنا أنهم ليبيون، لكننا عرفنا حقيقة أمرهم» ــ أضاف «ذلك لم يعد الآن سرا».

واستطرد «دى ميرانش»: «فى هذا الوقت لمحت «مبارك» لأول مرة، فقد حدث خلاف بين بعض الذين شاركوا فى مفاوضات عقد الصفقة، وكانوا قد تركوا سلاح الطيران المصرى وكوَّنوا شركة بينهم، ثم اختلفوا واشتد خلافهم لأسباب، وظهر «مبارك» يصالحهم مع بعضهم بالحرص على علاقاتهم معا، وهم فى الأصل من ضباطه، وكان علينا أن نرصد كل شىء، لأن الصفقة كلها أحاطت بها ظروف غير عادية!!

وأحسست أن «دى ميرانش» عاوده حذر رجل المخابرات القديم، فتوقفت ولم أشأ أن أعلِّق بكلمة!!

***

ولم أزد وبدا لى أنه لن يقول أكثر مما قال، ومع ذلك فإن «دى ميرانش» راح يردد اسم «مبارك» ويضيف وبنبرة دهشة لم يستطع إخفاءها، يقول:

«هل ترى الأقدار؟! أنا أجد نفسى الآن فى التقاعد، وزميلى السابق فى «مجموعة السافارى» على رئاسة الدولة المصرية!!».

ويضيف: و«أنا ختمت حياتى العملية فى الظل، وهو الآن يبدأ صفحة جديدة تحت الأضواء الباهرة!!».

ويزيد بصيغة التعجب: «مقادير.. مقادير يا عزيزى!!».


***

ومن الغريب بعدها ــ وهذه إضافة بالزيادة ــ أن التفاصيل سعت إلىَّ بعد ذلك، وبنفسها، فقد حدث فى سبتمبر 2008 أننى كنت فى «باريس»، والتقيت مصادفة فى صالة فندق «بريستول» بالسيد «عبد السلام جلود»، الذى كان رئيسا لوزراء ليبيا بعد ثورة سبتمبر 1969 (وكان «جلود» فى زمانه هو الرجل الثانى فى قيادة الثورة بعد «معمر القذافى»)، وكنت فى صالة «البريستول» أنتظر ضيفا موعده بعد نصف ساعة، ودعوت «جلود» للجلوس فى الحديقة الداخلية للفندق، وراح «جلود» يحكى، وتطرَّق إلى صفقة «الميراچ» مع فرنسا، مؤكدا أن قيمتها كانت 4 مليارات دولار، ثم استطرد فى التفاصيل، ومن حسن الحظ أن هذا الجزء من الحديث جرى أمام شاهد هو ضيفى الذى كنت أنتظره أصلا، وهو الدكتور «غسان سلامة» (المفكر اللامع ووزير الثقافة اللبنانى الأسبق، وهو الآن أستاذ فى جامعة «باريس»)، ودعوته للجلوس مع «عبدالسلام جلود» وسألنى «جلود» بعد أن قدمت إليه ضيفى همسا: «هل تثق فيه»؟!! – وأكدت له ثقتى فى «غسان سلامة»، واستأنف «جلود» واستفاض فى الحديث، لكنى لا أستطيع أن أنقل كثيرا مما سمعت، فليس لدىَّ مصدر ثانٍ يؤكد ما رواه، وفى أصول المهنة كما أعرفها أننى إذا لم أشهد بنفسى وقائع ما أتحدث فيه، فمن الضرورى تأكيدها قبل نشرها بشهادة مصدر ثانٍ، ولم أجد مصدرا ثانيا لما سمعت وقتها فى صالون فندق «البريستول»، وعلى أية حال فإن «عبد السلام جلود» يستطيع تفصيل روايته إذا شاء!!

الاثنين، 23 يناير 2012

محمد حسنين هيكل (الحلقة الخامسة) : مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان .. للحديث بقية! !

مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان (الحلقة الخامسة) .. للحديث بقية! !

محمد حسنين هيكل
كان الرئيس «مبارك» كما بدا لى وقد طالت جلستنا حتى تلك اللحظة أكثر من ساعتين ــ متشوقا على نحو ما ليسمع، وعندما طلب تأجيل موعد معه فى الساعة العاشرة والنصف، فقد أدركت أننا أمام لقاء سوف يطول، وحتى عندما عرضت الاستئذان كى لا أعطل ارتباطات سابقة له، على أن نعود بعد ذلك ونتقابل فى مناقشة أخرى ــ كان إصراره «أننا الآن هنا ــ إلا إذا كنت «زهقت»، وأكدت أننى لم «أزهق»، ولكن خشيتى على وقته، ولعله أراد طمأنتى ــ وربما إغرائى، فإذا هو يسألنى:

ــ ألا تريد أن تدخن سيجارا ــ أنا أعرف أنك من مدخنى السيجار، وأنا مثلك.

وأبديت الدهشة، فقال إنه لا يظهر فى الصور بالسيجار لكى يتجنب «القرشنة» ــ!ــ لكنه يدخن سيجارا واحدا كل يوم، ثم ضغط على جرس يطلب صندوق السيجار.

وجاء الصندوق مع أحد الضباط، وطلب «مبارك» تقديمه إلى بالإشارة، وأخذت منه سيجارا، وأخذ هو سيجارا.

ثم سألنى وهو يرانى أشعل عود كبريت: «سيجار كويس»؟!!

ولم أقل شيئا، ويظهر أنه أحس أننى لا أشاركه الرأى.

وقلت: «بكل احترام ــ الحقيقة أنه مقبول».

وقال باستنكار: «إيه؟! ــ هذا «روميو وچولييت».

وقلت: «الشركة التى تنتج سيجار «روميو وچولييت» تنتج أكثر من 75 نوعا بعلامتها، وكل نوع منها مختلف عن الآخر».

وسأل «مبارك» باهتمام:

«أُمال إيه بقى السيجار الكويس؟!».

وقلت «بإذنك فى سيارتى علبة صغيرة فيها سيجار، ولم أدخل بها لأنى لم أتصور أنك تدخن، وإذا وافقت نطلبه».

وجاءت العلبة، وعرضت على الرئيس «مبارك» أن يتفضل، فأخذ واحدا منها وأشعله، وكانت ملاحظته: والله أحسن فعلا ــ «غريبة جدا»!!

وقال وهو يستعيد الذكريات:

«عندما كنا نتدرب فى الاتحاد السوڤييتى كطيارين، كنا نشترى هذا السيجار (الذى لم يعجبك!!) ونبعث به إلى قادة السلاح، وكانوا يعتبرون ذلك «فخفخة»!».

ثم عاودته الذكريات فقال:

ــ أيام التدريب فى الاتحاد السوڤييتى كنا فى قاعدة جوية قرب «خاركوف»، وفى الإجازة ننزل إلى «موسكو»، وكنا نخفى الورقة «أم مائة دولار» تحت الشراب بعد أن نغطيها بقطعة من ورق التواليت، (أضاف أن ورق التواليت فى روسيا سميك وخشن مثل الخيش)، ثم نغيرها فى السوق السوداء عن طريق موظف فى مكتب الملحق العسكرى بمبلغ كبير من الروبلات، ونشترى علبا من هذا السيجار ونشحنها إلى قادة السلاح فى مصر. واستطرد: كان «الروبل» بالسعر الرسمى يساوى أكثر من دولار واحد، لكن السعر فى السوق السوداء كان 21 روبلا لكل دولار، فارق كبير، أضاف، «لكن الواد بتاع المكتب العسكرى كان جن».





●●●

وعاد «مبارك» فجذب نفسا من السيجار الذى قدمته له، وقال: «فعلا لك حق هذا أحسن جدا»، ولكنهم (يقصد القادة الذين كان يرسل لهم السيجار) كانوا يعتقدون أن الاتحاد السوڤييتى يأخذ سيجار كوبا مقابل السلاح، وقلت: «ذلك صحيح إلى حد ما، لكن أفضل أنواع السيجار الذى تنتجه كوبا كانت للتصدير بالعملة الصعبة إلى الغرب، وما تبقى من الدرجة الثالثة والرابعة يذهب إلى الاتحاد السوڤييتى ويشتريه الزوار بحُسن نية».

ومد الرئيس «مبارك» يده إلى جرس، فدعى أحد الضباط، ثم التفت وقال:

ــ «محمد» بيه ملِّى عليه كل أنواع السيجار «الكويس»!

وقلت ما مؤداه «أن لكل نوع من السيجار مذاقا، وأن كل مذاق مسألة اختيار، ولذلك فإنه من الصعب على مدخن أن يوصى غيره بنوع معين».

وقال: معلش «ملِّيه» الأنواع «الأبهة» (المتميزة).

وكان الضابط قد أسرع وجاء بورقة وقلم مستعدا لكى أمليه.

وعاد إلى تجربة «السيجار» الذى قدمته له، وقال:

ــ «فعلا كويس جدا».

ثم أضاف ضاحكا:

ــ يا أخى عاوزين نتعلم «العز».

ولفت تعبير «العز» نظرى، وقلت:

إنها ليست مسألة «عز»، ولكنها ظروف، وأنا شخصيا تعلمت تدخين السيجار (لسوء الحظ!) من رجلين: «نجيب الهلالى» (باشا)، ثم «فؤاد سراج الدين» (باشا)، كلاهما فى شبابى كانوا يقدمون لضيوفهم سيجارا عندما يشعلون لأنفسهم واحدا، وكنت أقبل الدعوة من باب «التجربة»، لكنى فيما بعد وقعت فى فخ «العادة»!

وقال «مبارك»:

ــ «إنه لاحظ أن كل الرؤساء الأمريكان يدخنون سيجارا، ويمارسون لعبة الجولف، وأنت أيضا تلعب الجولف».

وقلت بسرعة: «صحيح، ولكن بدون رئاسة».

وبادر معلقا «والله أحسن يا أخى، الناس تتصور أن الرئاسة شىء عظيم، والحقيقة أنها «بلوة»!!».

وقلت شيئا عن لعبة الجولف، وكيف أنها خير معلم للسياسة، وسألنى: كيف؟! ــ وشرحت قدر ما أستطيع لعبة الجولف، وعلاقتها الوثيقة بالعلوم الاستراتيچية.

واستمع إلىَّ باهتمام، ثم كان تعليقه: لكنها لعبة تأخذ وقتا، وأنا أفضل السرعة، ولذلك ألعب الإسكواش، وهى لعبة «موصوفة» للطيارين لشحن قدرتهم على الـ Agility «الاستجابة السريعة».

●●●

وهز «مبارك» رأسه بأسف وقال:

ــ «الآن لا وقت عندى حتى للإسكواش، لأن العبء ثقيل، وطلبات الناس لا تعرف الحدود».

وتوقف «مبارك» وتساءل:

ــ الناس «كده ليه»؟ ــ ليس عندهم إلا طلبات، يحفظون الحقوق وينسون الواجبات، والمصيبة أنهم جميعا «متخانقين»، وطلباتهم متعارضة، لا أعرف كيف تحمَّل الرئيس «جمال» أو الرئيس «أنور»؟! ــ أنا شخصيا، ولم أقض فى الرئاسة إلا شهورا ــ «طلعت روحى»!!

أشار إلى تخبط القوى السياسية، وصخب الصحافة والصحفيين.

وقال «مبارك» ويداه تسبقان إلى التعبير عما يريد قوله:

ــ «والله لو تعبت من كثرة الطلبات والخلافات، سوف أتركها لهم، وأسلم كل شىء للقوات المسلحة، وأترك الجميع «ياكلوا فى بعضهم»، وأخلِّص نفسي!!».

(وكأنها كانت نبوءة مبكرة!!).

ورجوته ألا يفكر على هذا النحو.

●●●

وعاد «مبارك» مرة أخرى إلى خلافى مع الرئيس «السادات»، وكان فى واقع الأمر يفصح عن آرائه هو نفسه ــ يقول:

ــ «السادات» كان على حق، لا أعرف لماذا اختار الرئيس «جمال» صداقة السوڤييت، وهم ناس «فَقْرى»، و«السادات» اختار الأمريكان وهم «المتريشين» (يقصد الأغنياء)، أكبر خطأ وقع فيه الرئيس «عبد الناصر» هو الخلاف مع أمريكا.

استطرد: «وبعدين الرئيس «أنور» اختار السلام مع إسرائيل، والرئيس «جمال» كان لابد أن يعرف أنه لا فائدة من الحرب مع إسرائيل».

واستطرد: «اليهود مسيطرين على الدنيا كلها، وأنت تعرف أكثر!!

اسمعها منى لا يستطيع أحد أن يختلف مع أمريكا».

أنا أعرف أنك كنت من أنصار علاقات طيبة مع أمريكا ــ فلماذا غيَّرت رأيك؟!!».

وأجاب بنفسه على سؤاله:

ــ «يا عم»، الذى لا يعرف أن أمريكا هى أقوى قوة فى العالم ــ «يعك».

ولم أعلق على الكلمة، ففى أثناء الحديث سمعت من هذا النوع من الكلمات «عينات» متكررة.

ورحت أشرح له رأيى:

ــ «أننى لا أختلف على أن أمريكا هى أقوى قوة فى العالم، ولكن المسألة هى: من أى موقع يتعامل الأطراف مع القوة الأمريكية» (استطردت وبشكل ما فقد قصدت أن يصل إليه ما كنت أقول)، إذا تعاملت مع أمريكا من منطق أنك تحتاج إليها، فلن تصل إلى شىء، وإذا تعاملت معها باعتبار أنها فى حاجة إليك، فقد تنجح».

وقاطعنى:

ــ «تريد أن تقول لى إن أمريكا تحتاج إلينا ــ طبعا لا ــ نحن الذين نحتاج إليها!!».
وقلت:

ــ «سيادة الرئيس.. إن الاحتياج لابد أن يكون متوازيا فى السياسة الدولية، وإذا جاء الاحتياج من طرف واحد ــ إذن فهو عالة على غيره، وحتى إذا قبل هو، فإن الطرف الآخر لن يقبل، ببساطة لأن السياسة الدولية ليست جمعية خيرية!!».

وأضفت:

ــ «أنه هنا أهمية موارد مصر الاستراتيچية، وقدرتها على إدارة هذه الموارد، وهنا مثلا أهمية انتماء مصر العربى.

بمعنى إذا لم تكن مصر من هذه الأمة العربية بالطبيعة، فلابد أن تكون منها بالضرورة.

بصراحة، أنا قومى عربى باقتناع، وبطبائع الأشياء فإن أحدا لا يستطيع الاقتناع إلا بما يتوافق مع مصلحة وطنه كما يقدرها ــ وفضلا عن اقتناعى ــ مبدأ ــ بعروبة مصر، فإننى مقتنع بضرورة هذه العروبة أيضا لمصر، وكذلك لكل بلد عربى».

ثم قلت:

«فارق ــ سيادة الرئيس ــ بين أن تتعامل مع أمريكا كمصر فقط ــ وهى بلد مثقل بحجم سكانه، محدود فى طاقة موارده، وبين أن تتعامل معها وهى وسط العالم العربى ــ بكل قوة الأمة، وبجميع إمكانياتها ومواردها!!

●●●

زدت على ذلك:

ــ هذا أيضا ــ سيادة الرئيس ــ هو ما يمكن أن يعطيك تأثيرا فى العالم الثالث كله وفى العالم الأوسع، إذا كنت وحدك، فالتأثير محدود، وإذا كنت وسط كتلة كبرى، إذن فهناك حساب آخر لتأثيرك».

أضفت: «مذكرا الرئيس بحوار منشور لى مع «كيسنجر» يوم 7 نوفمبر 1973، فى أعقاب حرب أكتوبر، وكان هو الآخر قد اقترح عليَّ فى حينها أن أقتصر فى كلامى معه على ما يخص مصر وحدها، دون العالم العربى، وكان ردى عليه: أنه يريد أن ينزع أهم أوراقى التفاوضية من أول لحظة».

وذكرت له كيف قلت لـ«كيسنجر» وذلك منشور فى مقال لى فى «الأهرام» ذلك الوقت:

ــ دكتور «كيسنجر»: أنت أستاذ علوم سياسية، ولا يصح لى أن ألف وأدور معك أو ألعب «الاستغماية» Hide& seek، ولذلك أحدثك بصراحة:

إذا اقتصر اهتمام مصر على قضاياها وحدها، فهى تحتاج لكم.

إذا كانت مصر وسط أمتها العربية فأنتم تحتاجون لها.

ولذلك دعنا من أول لحظة نتفق على أن اهتمامات مصر حتى بصرف النظر عن هويتها ــ عربية، وهى تريد علاقات طيبة معكم، لكن عليكم أن تقدروا بأنفسكم أنكم أيضا فى حاجة إلى علاقات طيبة معها.

(والحقيقة أننى قصدت أن أتوسع أمام «مبارك» فيما قلت لـ «كيسنجر»، حتى تصل وجهة نظرى إليه، دون أن تتبدى «وعظية» إذا وجهتها مباشرة إليه).

●●●

وقطع «مبارك» سياق كلامى قائلا:

ــ «هذا هو ما جلب لنا المشاكل، والحقيقة أننى مختلف معك ــ وموافق مع الرئيس «السادات» ــ فمشكلتنا أننا تحملنا بمشاكل غيرنا وليس مشاكل مصر وحدها، نقتصر عليها ونحلها بأسلوب عملى».

وقلت: لا أظن أن هناك ــ فى عزلة عن العالم العربى ــ حلا لمشاكل مصر وحدها ــ لا خيالى ولا عملى!!

●●●

عاد الرئيس «مبارك» إلى حديث «أمريكا» ــ قائلا:

ــ «أنت تنسى أنه لا أحد يستطيع مساعدتنا على إسرائيل إلا أمريكا، العرب شمتوا فينا سنة 1967، مع أنهم هم الذين ورَّطونا فى الحرب».

وأضاف:

ــ «أنا أعرف «الأسد» (يقصد «حافظ الأسد») من أيام الطيران، وهو قال لى إن «حزب البعث» قصد توريط «عبد الناصر» فى حرب سنة 1967».

واستطرد فى تفاصيل علاقته مع «حافظ الأسد».

وقلت: «إننى معه فى أن نظما بعينها هنا وهناك حاولت مرات توريط «عبد الناصر»، ثم رُحت أشرح له بعض ظروف القرار السياسى سنة 1967، وضمنه ــ وبصرف النظر عن التربص الخارجى ــ أن القرار المصرى وقع فى أخطاء لم يكن هناك مبرر لها، أخطرها قرار الانسحاب من سيناء بكل القوات فى ليلة واحدة (7 يونيو 1967)».

وأخذنا هذا الحديث إلى كلام إلى تفاصيل متشعبة عن ظروف وملابسات سنة 1967، وحكى لى أنه كان مع سرب القاذفات المتمركزة فى مطار «بنى سويف»، وقال إنه قرأ التحقيقات التى جرت عن تلك الحرب، لأن الرئيس «السادات» عينه رئيسا للجنة كتابة التاريخ عندما كان نائبا له، وأنهم استطاعوا فى اللجنة أن يجمعوا أكثر من مليونى ورقة من الوثائق، وأنه اطلع على بعضها بنفسه، لكن ضيق الوقت لم يمكنه من قراءة الكثير».

أضاف «أنه مع ذلك يعتقد أن علاقاتنا مع أمريكا من ألزم الضرورات، وبالتحديد فيما يتعلق بإسرائيل».

ثم استطرد وهو يهز رأسه:

ــ «بعض الناس يريدوننى أن أقيم علاقات كاملة مع إسرائيل ــ ويريدون ذلك الآن ــ ولكن عليَّ الانتظار ــ أنا أنتظر على أحر من الجمر أن يجىء أبريل ويخرجوا من الأرض المصرية كلها».

أضاف: «هل يظن الناس أن التعامل مع الإسرائيليين يسعدنى؟! ــ هناك فارق بين أن أعترف بقوة إسرائيل، وبين أن أحبها!!».

ثم استدرك:

«محمد» (بيه) أقسم لك أنهم «يسمُّون بدني» فى كل مرة ألتقى «بواحد منهم»، أتضايق منهم ويفوت منى موعد نومى وأسهر الليل أشتمهم».

وقلت: «إننى أفهمه، لكنه من حسن حظى أننى لست مضطرا لمقابلتهم، ولهذا فأنا كمبدأ لم أقابل منهم أحدا».

وقال بسرعة: «ولكن كيف تستطيع أن تفعل ذلك إذا كنت مسئولا؟!».

وقلت: «ولكنى والحمد لله غير مسئول».

●●●

وقال الرئيس «مبارك»:

ــ هذا موضوع كنت أريد أن أكلمك فيه».

ثم استطرد قائلا برقة بادئا بكلام كريم، لكن نبرة العتاب تشيع فيه:

«الرئيس أنور» تعب معك حتى تتعاون معه».

وسألته: «كيف يستطيع أحد أن يتعاون فى سياسة لا يؤمن بها؟!».

قال: «تستطيع أن تساعد دون أن تتعامل مع إسرائيل».

وقلت: «إن منصب الوزارة عرض من سنة 1956، وكنت لا أزال شابا قد تغريه المناصب، والرئيس «السادات» عاد بعد ذلك فعرض عليَّ منصب نائب رئيس الوزراء، أو رئيس الديوان السياسى».

وقال: «أعرف ذلك، ولم أقصد أن أحدثك عن منصب».

أسألك سؤالا صريحا ومحددا ــ قالها وهو يتطلع إلىَّ مركزا: «ما رأيك أن تدخل الحزب الوطنى؟!!».

وبدا أننى أصبت برعب، وقلت له: إننى لم أدخل الاتحاد الاشتراكى مع «جمال عبد الناصر» رغم عمق صداقتنا ورغم إلحاحه مرات ــ لأنى لا أعتقد فى هذا النوع من التنظيمات السياسية التى تقوم فى حضن السلطة، وفضلا عن ذلك فلست من أنصار أن ينتمى الصحفى حزبيا».

●●●

سكت قليلا ثم سألنى:

«إذا لم تكن تفكر فى دخول الحزب، فماذا تنوى أن تفعل؟!».

أضاف: «لا يُعقل أنك سوف تجلس فى بيتك ساكتا!».

وقلت ضاحكا:

«أنه ليس له أن يقلق، فأنا لا أنوى الانضمام إلى قائمة المتعطلين الذين يبحثون عن عمل».

أضفت: «لديَّ عقود لكتب جديدة مع «الناشرين» فى لندن ونيويورك بعد ستة كتب سبقت، تُرجمت وجميعا من الإنجليزية إلى لغات كثيرة، وآخرها كان كتاب «عودة آية الله» The Return of The Ayatollah عن الثورة الإيرانية، وقد صدر فى أوروبا وأمريكا أثناء وجودى فى السجن، وقد تُرجم حتى الآن إلى سبع عشرة لغة ــ ثم إنه فور خروجى من السجن اتصل بى «أندريه دويتش» وهو أكبر الناشرين فى لندن، وسألنى إذا كان فى استطاعتى أن أقدم لهم بسرعة كتابا عن السبب الذى دعا إلى اغتيال «السادات»، وهو فى رأيهم «بطل السلام»، وقد قبلت عرضه، وذلك ضمن ما سوف أناقشه فى سفرة قريبة إلى لندن».

وقاطعنى: «كتاب عن الرئيس «أنور»؟!!

وقلت: «ليس عنه، ولكن عن عملية الاغتيال بالتحديد، وقد عثرت على عنوانه وأنا فى السجن، فقد كنت أفكر فى شىء من هذا القبيل، حتى قبل أن يتصل بى أحد من لندن، وعثرت أثناء تفكيرى فيه على عنوان له: «خريف الغضب»!.

وكرر الرئيس عنوان الكتاب المقترح كما سمعه منى، وبدا حائرا فى فهم مقصدى به، لكنه تجاوز حيرته.

وعلَّق بقوله: «ولكن هذا سوف يسبب لك مشاكل كثيرة، لأن الرئيس «أنور» له «جماعات كبيرة»!».

وقلت: «أما عن المشاكل فقد تعوَّدت عليها، ثم إننى أرجوك أن تعرف أن الرئيس «السادات» كان صديقا، وليس مشكلة أن تختلف آراؤنا، وأن تتباعد الطرق بيننا، لكن ذلك لم يترك أثرا لدىَّ».

زدت على ذلك: «أنه عندما وقع اغتيال الرئيس «السادات» وعرفت به فى السجن، فإنى بكيت عليه بصدق، وساعتها زال كل أثر للخلاف وما ترتب عليه، لأن الدم والدموع غسلت كل شىء!!».

●●●

وجاءنى تعليقه مفاجئا:

«لم أكن أعرف أن الكتب «شغلانة كويسة»!!

وقلت: «أننى لا أعرف تصوره لـ «الشغلانة الكويسة»، لكن الكتابة بالنسبة لى حياتى كلها!!».
وعاد يسألنى:

«ولكن ألا تفكر فى العودة للصحافة المصرية؟!».

وقلت:

«إن ذلك بعيد عن تفكيرى تماما، فقد اعتبرت أن دورى فى الصحافة المصرية انتهى بخروجى من «الأهرام»، وأوثر أن أترك المجال لآخرين، وكذلك لأجيال أخرى».

ووجدها فرصة يعود بها إلى اقتراحه، فقال: «خسارة ألا يستفيد منك البلد» ــ وسألته: «ألا يرى فى وجود صحفى وكاتب مصرى فى مجال النشر الدولى فائدة للبلد؟!!».

وشرحت بعض التفاصيل عن حجم النشر الدولى، سواء فى الكتب أو فى الصحف، وبالتحديد عندما يقع الجمع بين الاثنين، فيصدر كتاب، ثم تُنشر فصول منه فى آلاف الصحف على اتساع العالم.

●●●

ورد بأنه مازال يرى «أن أنضم إلى الحزب الوطنى، والمجال فيه بلا حدود»!!

وقلت: «أنت تريد أن تضمنى إلى الحزب الوطنى، وأنا وغيرى نريدك أن تخرج منه».

وسألنى عن السبب، وهل الأحزاب «بعبع»، أو أنها وسيلة العمل السياسي؟! ــ وقلت: «الصحفى بصفة عامة يتعامل مع الأخبار، والأخبار لها استقلالها، وتلوينها بظلال التحزب، مخالف لقيمتها ومصداقيتها».

واصلت الحديث:

ــ ولعله يتذكر يوم جئناه من المعتقل قبل أيام ــ أنه سمع بعضنا يناشدونه مباشرة لترك رئاسة الحزب الوطنى، وقلت إنه فى العادة وفى النظام الرئاسى بالذات، فإن الرئيس حتى وإن كان منتميا إلى حزب، يجمد انتماءه لهذا الحزب فترة رئاسته.

وقال بلهجة قاطعة: «لو تركت الحزب فسوف يقع».

وقلت: إذن فإن الحزب لا وزن له فى حد ذاته، وهو يستمد وجوده من السلطة، وليس من الناس، وهذا هو الخطر.

قال:

ــ «تخوفك من الحزب الوطنى مُبالغ فيه، ووجودى فيه ليس المشكلة، المشكلة فى العمل التنفيذى، فى الحكومة وأنت تعرف حجم المشاكل، وزاد علينا خطر الإرهاب، والناس تطلب «لبن العصفور»، ولابد من الاستقرار قبل أن نستطيع عمل أى شيء، والجماعات الإرهابية كامنة، وتنتشر تحت الأرض».

●●●

وبدورى قاطعته:

ــ «والنظام يساعدها».

واستغرب ما قلته وهو يسألنى:

ــ «النظام يساعدها ــ كيف؟!».

قلت له: «هناك بالطبع المشاكل الاقتصادية الاجتماعية، وهذه مشاكل ثقيلة، لكن هناك أشياء أخرى منها مثلا كثرة البرامج الدينية البعيدة عن قيم الدين، وكثرة الفتاوى فيما لا علاقة له بروح الدين.. كل هذا يسيء ــ لكن كله يشحن!!».

وزدت فقلت: «إننى سألت أحد زملائنا القُدامى فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيچية فى «الأهرام» أن يدرس مساحة البرامج الدينية على الإذاعة والتليفزيون، وفوجئت حين قيل لى إن نتائج بحثه فى الموضوع، أظهرت أن أكثر من 27% من مساحة البرامج ــ دينية، أو ذات طابع دينى، وأنا رجل من أسرة متدينة، وأعرف قيمة الدين هداية وعصمة، ثم إننى من أسرة كان أول تقاليدها أن يحفظ أبناؤها القرآن، وقد حفظته كله، لكنى لا أستطيع أن أتصور بعض ما يُقال فى البرامج الدينية.

أضفت آسفا: إننى سمعت بنفسى من «إذاعة القرآن الكريم» من القاهرة، وفى معرض برنامج من برامج التواصل مع السامعين، سائلا يستفسر عن «كيفية الاغتسال بعد ممارسة الجنس مع بقرة»، وبقدر ما أفزعنى السؤال، فقد أفزعنى أكثر أن أحد الشيوخ جاوب عليه، وراح يحدد لسائله وسائل الاغتسال المطلوبة فى تلك الحالة!!».

وأغرق «مبارك» فى الضحك ــ ثم قال:

ــ «التوسع فى البرامج الدينية ضرورى، لأننا لابد أن نواجه الإرهابيين على أرضيتهم، ونأخذ منهم الناس».

وقلت:

ــ «المشكلة أنك إذا واجهت الإرهابيين على أرضيتهم، وبهذه الطريقة، فسوف تقبل الاحتكام إلى قانون لا تعرف مصدره، ولا تعرف نصه، ولا تعرف قاضيه».

وتوقف عند هذا التعبير وبدت عليه الحيرة، وقال لي: «هل يمكن أن تفك لى هذا الكلام «الملعبك»؟!!

وحاولت شرح وجهة نظرى بأسلوب آخر!!

وقال وهو يعاود الضحك:

ــ «هل علىَّ أنا أيضا أن أهتم بالرجل الذى يعشق (استعمل لفظا آخر غير العشق!) ــ بقرة؟!!».

وقلت له بسرعة: «لا أحد يتصور أن يطلب منك ذلك، ولكن الناس تطلب رؤية للمستقبل مقنعة».

●●●

ووصل الحديث بنا إلى أسلوب عمل رئاسة الدولة، واقترحت «أنه من الضرورى والرئاسة بهذا الدور المركزى ــ أن يُعاد تنظيمها بطريقة ملائمة للعصر».

وسألنى عما أعنى، وقلت:

«إننى لاحظت منذ خرجنا من المعتقل قبل أسبوع، أن الرئاسة تُدار بأسلوب يحتاج إلى مراجعة».
وكان يسمعنى باهتمام، وواصلت:

«إننى سمعت من أصدقاء بينهم «فؤاد سراج الدين»، و«ممتاز نصار»، أنك بعثت إليهم برسائل منك أو ملاحظات مع «أسامة الباز»، وذلك حدث معى شخصيا أيضا ــ و«أسامة» كما تعرف صديقى، وكان يعمل معى لسنوات، وأنت تثق فيه ولا أفهم لماذا تجعله يعمل بطريقة «بائع متجول على عربة يد»، تبعثه برسالة إليَّ، أو رسالة إلى غيرى، لماذا لا تعين «أسامة الباز» وزيرا لشئون رئاسة الجمهورية، وتُنشئ له مقرا فى القصر الرئاسى يعرفه الناس، وتكلفه بإنشاء مكتب فيه خبراء فى القانون والاقتصاد، ومتحدث رسمى باسم الرئاسة يعبر عن رؤاها فى الداخل وفى الخارج، وبذلك يكون هناك مصدر معروف تصدر منه الرسائل والتوجُهات، ومقر يذهب إليه الناس للاتصال والتشاور!!

وقال بلهجة تنم عن تردد:

ــ «المسألة أننى لا أريد أكرر ما يسمح بظهور مركز قوة فى الرئاسة، وأنت تعرف تجربة «سامى شرف» مع الرئيس «جمال»، المشكلة أن وجود رجل فى مثل هذا الوضع قد يؤدى إلى عُزلة الرئاسة عن الناس بوجود رجل يستطيع أن يحجب ويسمح بما يشاء، وهى مشكلة عرفناها».

وقلت: «إن الأمر يتوقف على شخصية الرئيس، وأسلوب عمله، ومع ذلك فدعنى أقل لك إن «سامى» مظلوم فى بعض ما قيل عنه، ومع ذلك فإن الأمر يتعلق بك أنت وأسلوب عملك».

وأضفت:

«وأنا شخصيا أرى أن ترسل أحدا إلى البيت الأبيض فى واشنطن، أو إلى «10 دواننج ستريت» فى لندن، ليدرس كيف تُدار مكاتب رؤساء الدول فى هذا العصر الجديد، وتقرر ــ أنت ــ على هذا الأساس أى نظام يحقق لك ما تريد بأقصى قدر من الكفاءة!!».

وحدثته عما أعرفه عن تنظيم البيت الأبيض ــ ومجلس الأمن القومى ــ ونظام العلاقات مع الكونجرس ــ ومع الحزب ــ ومع الإعلام ــ وعن مؤسسات السلطة فى الداخل والخارج.

وحدثته كذلك عما أعرفه عن تنظيم «10 دواننج ستريت»، وعن مطبخ القرار السياسى، وعن مكتب الاتصال مع الحزب فى المعارضة أو فى الحكم، وعن منصب سكرتير عام مجلس الوزراء الذى يرأس المجلس التنفيذى للوكلاء الدائمين للوزارات».

وقلت: «إننا نحتاج إلى دراسة تجارب الآخرين».

وقال: «مازلت أفضل أن أعمل مباشرة بمجلس الوزراء كله.. المجلس هو مكتبى، هو نفسه سكرتارية الرئيس!».

وقلت: «إن ذلك مستحيل عمليا، ولابد أن يكون للرئيس مكتب فيه خبراء للشئون السياسية والقانونية والاقتصادية، يدرسها ويقدم له توصيات بشأنها، وإلا فإن الرئيس ليس أمامه فى هذه الحالة إلا أن يوقع مشروعات المراسيم بقوانين كما تصل إليه من مجلس الوزراء، وفى هذه الحالة فإن الرئاسة لا تعود مركز توجيه العمل الوطنى، وإنما تصبح توقيعا وختما على المراسيم، يحولها إلى قوانين!!».

وبدت عليه أعراض تحيُّر، وقال:

ــ «كلامك فيه منطق، و«أسامة الباز» له معى تجربة طويلة!».

قلت: «هو موضع ثقتك وهذا مهم، وأنا أعرف أن «أسامة» لديه «شطحات بوهيمية» فى بعض الأحيان، لكنه من المحتمل أن بعض ذلك عائد إلى أنه يعمل بلا مكتب وبلا مؤسسة معه، وإنما هو رجل وحده، وهذا ما قصدته ــ بصراحة ــ حين قلت لك إن الرئاسة تعمل بمنطق «البائع المتجول».

وقال بما بدا لى أنه على استعداد للبت فورا فى المسألة:

ــ «لك حق، ولابد أن يفهم «أسامة» أن عليه العمل بطريقة منظمة».

ثم رفع سماعة التليفون وطلب توصيله بـ«أسامة الباز»، وبعد خمس دقائق دق التليفون ورفع الرئيس سماعته، ثم التفت إليَّ يقول:

ــ «هل رأيت ــ «أسامة» ليس هنا، بحثوا عنه فى كل مكان، ولم يعثروا له على أثر».

وقلت دفاعا عن «أسامة»:

ــ «لابد أنك كلفته بمهمة فذهب إليها».

وقال «مبارك»: «سوف أرسله إليك فى مكتبك، وقل له كل ما تتصوره حتى أناقشه معه وأقرر».

●●●

وقارب اللقاء نهايته، وبينما أهُمْ بالقيام ــ استدعى الرئيس «مبارك» أحد أفراد سكرتاريته، وطلب منه أن يكتب على ورقة كل أرقام التليفونات الخاصة بمكتبه، بما فيها تليفونه الشخصى، طالبا أن أتصل به «فى أى وقت».

وقلت للرئيس:

«إن هذه رخصة أعتز بها لكنى لا أنوى استعمالها، وأفضل ترك أمر الاتصال فى أى وقت له، فهو رجل مشغول على الآخر، وجدول أعماله يجب أن يكون ملكه، دون إلحاح عليه من أحد».

وأضفت: «لو أننى استعملت هذا الترخيص الذى تفضَّل بإعطائه لى، لما كففت عن إبداء الملاحظات، وأول الدواعى أننى مختلف مع مجمل السياسات المُعتمدة، وإذا رُحت أبدى رأيا فى كل ما أشعر بالقلق منه، فسوف أجد نفسى أقوم بدور من «لا يعجبه العجب»، وذلك دور لا أحبه!!».

ورحنا نمشى نحو الباب، ولمح «مبارك» مصوِّر الرئاسة المشهور، الأستاذ «فاروق إبراهيم» يتحرك من بعيد، والتفت نحوى قائلا: «دعنا نلتقط صورة معا»، وقلت للرئيس صراحة: «أننا نستطيع أن نستغنى عن الصورة، وربما كان ذلك أفضل».

ووقف فى مكانه وتطلع إليَّ وهو يعلِّق: «غريبة ــ الناس يجيئون إلى مقابلتى وليس لديهم غرض إلا هذه الصورة».

وقلت: أننى كنت أقابل «جمال عبد الناصر» مرتين وثلاث مرات فى الأسبوع، وكذلك «السادات»، وكانت اتصالاتنا التليفونية عدة مرات كل يوم، ومع ذلك لم تُنشر صورة للقاء، ولا خبر عن اتصال تليفونى، وأنا لا أفهم «بدعة» نشر أخبار أو صور لقاءات الصحفيين مع الرئيس، لأن هذه «طبائع أشياء»، و«طبائع الأشياء» ليست خبرا ــ وتدارك قائلا: «والله لك حق، إننى أقابل كل الناس ولا يحدث شيء، لكنه عندما «عرفوا» أننى سأقابلك ــ «ولعت «اللمبة الحمراء» فى الصحافة وفى الحكومة وفى الحزب».

ولم أملك نفسى، فقلت:

«سيادة الرئيس.. هل هناك بالفعل حزب؟!».

وهز رأسه قائلا: «أنت مصمم على رأيك فى الحزب، الحزب مهم فى الاتصال بالناس وفى «تمرير القرارات»، ولفتت الكلمة الأخيرة نظري!!».

●●●

ومساء نفس يوم المقابلة اتصل بى «أسامة الباز»، ومر علىَّ فى مكتبى، يحمل فى يده دفترا من الـ Yellow Pad الذى يستعمله القانونيون فى الولايات المتحدة الأمريكية، وبادرنى قبل أن يجلس أمامى:

ــ ما الذى اقترحته على الرئيس؟!!

ورويت له أطرافا تخصه مما دار فى حديثى مع «مبارك»، وكان رده:

ــ «أنت تضيع وقتك، هو له طريقة فى العمل مختلفة، وهو يفضل أن يسمع من هنا ومن هناك، ويتصرف بما يرى (وهذا كلام لك)، وسوف ترى.

وهو لن ينشئ وزارة لشئون رئاسة الجمهورية، ولن يعيننى وزيرا لها».

وتشعَّب الحديث بيننا، وأثناء خروجى لاحظ «أسامة الباز» وهو يمر عليَّ حيث أجلس فى مكتبى، أن هناك أوراقا كثيرة مكتوبة بخطى، وبمعرفة سابقة ووثيقة فإنه قال لي: «أراهن أن هذه الأوراق كلها نقط حديثك معه».

وقلت: «إن ما خطر له صحيح».

الأحد، 22 يناير 2012

محمد حسنين هيكل (الحلقة الرابعة) : مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان .. لقاء الست ساعات!

(مبارك) يريد أن يعرف أكثر عن علاقة (عبد الناصر والسادات)

مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان (الحلقة الرابعة) .. لقاء الست ساعات!

محمد حسنين هيكل كان اللقاء مع «مبارك» وديا، ولا أستطيع أن أقول حميما، ولم تكن الحميمية متصورة بعد متابعتى له من بعيد، منذ ظهر أمامى فى «الخرطوم» ــ ثم نائبا للرئيس فى ظروف تشابكت فيها العلاقات بينى وبين الرئيس «السادات» ما بين سنة 1974 وسنة 1975، ثم انقطعت فى نفس الظروف التى أصبح هو فيها نائبا للرئيس، ومسئولا عن الأمن والتأمين، ثم رئيسا للدولة فى ظروف عاصفة!!

وصباح يوم موعدنا ــ السبت 5 من ديسمبر ــ وصلت إلى بيته فى الموعد المحدد ــ وعبرت باب البيت من ردهة إلى صالون فى صحبة ضابط برتبة عميد، ولم أنتظر أكثر من دقيقة فى الصالون، حتى دخل «مبارك» مادا يده ومرحّبا بابتسامة طيبة وملامح تعكس حيوية شباب وطاقة!!

وقال على الفور وهو ما زال واقفا: «لابد أنك جائع فأنا أعرف أنك تستيقظ مبكرا».

وقلت: «بصراحة ــ سيادة الرئيس ــ إننى أفطرت فعلا، ولكنى سوف أجلس معك وأنت تتناول إفطارك»، وضحك قائلا: الحقيقة أننى أيضا أكلت شيئا خفيفا، وقلت له: «إذن فلا داعى لإضاعة وقت على مائدة الإفطار، فلدىَّ الكثير أريد أن أسمعه منك»، وأبدى موافقته بعد تكرار سؤاله عما إذا كنت لا أريد أن آكل أى شىء مما جهزوه لنا، وكررت الشكر، وقال: إذن نطلب فنجانين من القهوة ونجلس.

قدم لى الرئيس «حسنى مبارك» دون أن يقصد من ناحية، ودون أن أقصد أيضا ــ مفتاحا لم أتوقعه من مفاتيح شخصيته، ولسوء الحظ فإن ما قدَّمه لى فات علىَّ فى وقته، مع أنه استوقفنى فعلَّقت عليه!!

●●●



قلت للرئيس «مبارك» فور أن جلسنا: «إننى فكرت بالأمس أن أطلب مكتبه، راجيا تغيير موعدنا، لأنى قرأت فى الصحف عن مشاورات يجريها لتعديل وزارى أعلن عنه، وقد خطر لى أن موعدى معه اليوم قد يُحدث التباسا وخلطا لا ضرورة له، بين لقاءاته فى إطار التعديل الوزارى، وبين لقاءاته العادية الأخرى وضمنها موعدى معه، وأول الضحايا فى هذا الخلط والالتباس ــ سوف يكون فريق الصحفيين الذين يغطون أخبار رئاسة الجمهورية».

ورد «مبارك» وهو يبتسم بومضة شقاوة فى عينيه:

- وماذا يضايقك فى ذلك.. «اتركهم يغلطوا!».

ولم يتضح لى قصده، وسألته، وجاء رده بما لم أفهمه فى البداية حين قال (يقصد الصحفيين): دول عالم «لَبَطْ»، وأبديت أننى لم أفهم المعنى، واستنكر بُطء فهمى فقال: «لا تعرف معنى «لَبَطْ» ــ هل أنت «خواجة»؟!، وأكدت له أننى أبعد ما أكون، وراح يشرح معنى «لَبَطْ»، ثم واصل شرحه: «اتركهم يغلطوا» حتى يتأكد الناس أنهم لا يعرفون شيئا».

ومرة ثانية لم يتضح لى قصده، ومرة ثانية سألته، ورد، وعلى شفتيه ما بدا لى «ابتسامة من نوع ما»: «إن الصحفيين يدَّعون أنهم يعرفون كل شىء، وأنهم «فالحين قوى»، والأفضل أن ينكشفوا أمام الناس على حقيقتهم، وأنهم «هجاصين» لا يعرفون شيئا».

قلت:

ــ ولكن سيادة الرئيس هذه صحافتك، أقصد «صحافة البلد»، ومن المفيد أن تحتفظ لها بمصداقيتها، ولا بأس هنا من جهد لإبقاء الصحفيين على صلة بالأخبار ومصادرها.

ورد بقوله: «الدكتور «فؤاد» (يقصد رئيس وزارته وقتها «فؤاد محيى الدين») يقابل الصحفيين باستمرار، ويطلعهم على الحقائق، لكن بلا فائدة، هم «يخبطوا على مزاجهم» ولا يسألون أحدا!».

وقلت: «إنه ليس هناك صحفى يحترم نفسه تصل إليه أخبار حقيقية ويتردد فى نشرها».

وظل على رأيه: «المسألة أنهم لا ينشرون، إما أن لهم مصالح خاصة، وإما أنهم لا يفهمون».

وأحس أننى لم أقتنع، وتفضَّل بما ظن أنه مجاملة ــ قائلا:

ــ «محمد بيه» أنت تقيس الصحفيين الحاليين بتجربة زمن مضى، ليس هناك صحفى الآن له علاقة خاصة بالرئيس (وكانت الإشارة واضحة)، وقلت إن «جمال عبدالناصر» كان متصلا بكثيرين من الصحفيين، ثم إن هذا لا يمنع قيام صداقة مع أحدهم بالذات، ولكن المهم أن يكون أصبع رئيس الدولة على نبض الرأى العام طول الوقت».

وانتقل والدهشة عندى تزيد قائلا:

«على فكرة نحن كنا نتصور أنك تجلس على حِجْر الرئيس الرئيس «جمال»، لكنه ظهر أن الرئيس «جمال» كان هو الذى يجلس على حِجْرك، واستطرد: لم أكن أعرف أن العلاقة بينكما إلى هذا الحد حتى شرحها لى (أشار إلى اسم الأستاذ «أنيس منصور)»!!

واستهولت ما سمعت، وبان ذلك على ملامحى، وربما فى نبرة صوتى حين قلت له:

«سيادة الرئيس أرجوك لا تكرر مثل هذا الكلام أمام أحد، ولا حتى أمام نفسك، أولا لأنه ليس صحيحا، وثانيا لأنه يسىء إلى رجل كان وسوف يظل فى اعتقادى واعتقاد كثيرين فى مصر وفى الإقليم وفى العالم قائدا ورمزا لمرحلة «مهمة» فى التاريخ العربى».

أضفت:

«فيما يتعلق بى فقد كان يمكن أن يرضى أوهامى أننى كنت «كل شىء» وقت «جمال عبد الناصر»، ولكن ذلك غير صحيح، لأن «جمال عبد الناصر» كان هو «جمال عبد الناصر»، وقد أسعدنى ــ ولا يزال ــ أننى كنت صديقا له وقريبا منه ومتابعا لدوره وهو يصنع للأمة كلها تاريخا يمثل على الأقل لحظة عز وقوة لها فى عالمها وعصرها، وأنا أقول ذلك بعيون مفتوحة، مدركا أن تجربة «عبد الناصر» كانت إنسانية قابلة للخطأ أحيانا كما للصواب، كما أنها ليست أسطورية معصومة بالقداسة، لأن ذلك غير إنسانى، وهذه هى الحقيقة»!.

وقاطعنى:

ــ «أنا أعرف كم كان الرئيس «جمال» شخصية عظيمة، وما قلته لك كان كلام (أعاد الإشارة إلى اسم «أنيس منصور»!)، وهو لم يقله لى فقط، وإنما نشره أيضا، أما أنا فلم أقل من عندى إلا ما قلته أنت فى وصف علاقتك به، من أنك كنت صديقا له وقريبا منه هذا ما قصدته، وقصدت أنك كنت تعرف كل شىء، بينما الصحفيون الآن لا يعرفون».

وقلت:

ــ «إن علاقته هو (أى «مبارك») بالصحفيين فى عهده اختياره، وله أن يوصفها كما يرى، لكنى أتمنى لو استطاع أن يسهِّل على الصحافة أن تعرف أكثر، لأن تلك مصلحة الجميع، وأولهم هو شخصيا».

وظل على رأيه لم يغيره، وأكثر من ذلك فإن رده علىَّ كان بقوله: «أنه إذا عرف الصحفيون أكثر، فسوف يتلاعبون به».

وقلت فى شبه احتجاج:

ــ «سيادة الرئيس أنت تسىء الظن بإعلامك، وأنا أعرف بعضا من شيوخ المهنة وشبابها، وأثق أنهم لن يتلاعبوا فى أخبار، فضلا عن أسرار».

وشرحت لمحات عن مهنة الصحافة فى مصر وتاريخها ورجالها، ومع أنى أسهبت إلى حد ما فى الحديث عن تاريخ الصحافة المصرية، فقد أحسست أنه يتابع، وكانت له عدة أسئلة واستفسارات عن الأشخاص وعن الوقائع.

ثم آثرت أن أنتقل من هذا الموضوع إلى غيره مما يعنينى فى أول لقاء مع رئيس الدولة الجديد فى مصر، وفى ظروف عاصفة يندر أن يكون لها مثيل ــ هبت على مصر نارا ودما!!

●●●

وكذلك عُدت بالحديث إلى مدخله الطبيعى، فقلت للرئيس: إننى متشوق إلى سماعه.

ورد قائلا: ولكن أنا أريد أن أسمعك هذه المرة وأن أسألك، وفى المرة القادمة أنت تسألنى ــ أضاف بتواضع أنه يعتبر نفسه هذه الفترة فى «مهمة استكشاف»، يتعرف فيها على «الجو» الذى يتعين عليه العمل فيه!»، وأضاف: «أنا طلبت منك أن تتكلم يوم جئت إلى قصر «العروبة» بعد الإفراج عنكم، ولكنك لم تتكلم». وقلت: «إننى اعتذرت لأن اتفاقنا قبل المجىء إلى عنده كان أن يتكلم واحد منا بالنيابة عنا جميعا، وقد اخترنا «فؤاد سراج الدين» لأنه أكبرنا سنا، وأسبقنا جميعا إلى ممارسة العمل السياسى».

قاطعنى بسؤال: هل عرفت «سراج الدين» وأنتم فى «طرة»؟!! ــ وقلت: إننى أعرفه من قبل ثورة 1952، وحين كان سكرتيرا عاما لحزب الوفد ووزيرا للداخلية، وقتها (فى أواخر العشرينيات من عمرى) ــ كنت رئيسا لتحرير «آخر ساعة»، ومديرا لتحرير «أخبار اليوم»، وعلى علاقة بمعظم الساسة فى مصر، وكان «فؤاد سراج الدين» من أبرزهم، ولم تتغير علاقتى به أو بهم، بل توثقت مع مرور الأيام، وحتى بعد ثورة يوليو.

وقاطعنى «مبارك» بسؤال:

هل كان الرئيس «عبد الناصر» يعرف ذلك ويقبل به؟!! ــ قلت له: «جمال عبد الناصر» كان يحب «مصطفى النحاس» مثلا (رئيس الوفد) ويحترمه، وكان يرى مزايا كثيرة لـ«فؤاد سراج الدين»، ويعتبره سياسيا ذكيا مجربا، حتى وإن اختلف معه».

وتوقف «مبارك» للحظة مترددا ثم سأل:

ــ ولكن ألم يحدث أن الرئيس «جمال» اعتقل «النحاس» (باشا)؟!!

وقلت:

ــ بالمعنى الحقيقى لم يعتقله، وإنما أصدر قرارا بتحديد إقامته فى بيته، وكان ذلك سنة 1955، وفى الظروف الخطرة على الطريق إلى حرب السويس، وكانت المعلومات وقتها أن الإنجليز يبحثون عن حكومة بديلة لنظام 23 يوليو، وخشى «جمال عبد الناصر» أن يقوم أحد بتوريط «النحاس» (باشا) فى حديث عن حكومة بديلة، خصوصا وأن المعلومات وقتها كانت أن المخابرات البريطانية M.I.6 تقترح إما «النحاس» (باشا)، وإما اللواء «محمد نجيب» لرئاسة حكومة يستطيعون الاتفاق معها، وأظنه أراد حماية «النحاس» (باشا) أكثر مما أراد الإساءة إليه، وأنا أعرف أن الأسلوب غريب فلا أحد يستطيع حماية رجل يحرص عليه بتحديد إقامته فى بيته، لكن «جمال عبد الناصر» وفى الكلام معى أشار إلى هؤلاء الذين ورطوا «النحاس» (باشا) فى حادثة 4 فبراير 1942)، وأتذكر أننى وقتها استأذنته أن أذهب قبل تطبيق القرار بتحديد إقامة «النحاس» (باشا) وأشرح له دواعيه، وأن «عبد الناصر» وافق، وذهبت إلى مقابلة «النحاس» (باشا) بالفعل.

وكنت وما زلت حتى الآن على خلاف مع الأسلوب، رغم تفهمى لدوافعه».

●●●

ــ وقاطعنى «مبارك»:

تريد أن تقول إن الرئيس «عبد الناصر» كان يحب «النحاس»؟!!

واستطرد:

«لا مؤاخذة ــ الرئيس «أنور» قال لى إن «عبد الناصر» لم يكن يحب أحدا».

ــ وابتسمت وقلت: هذا رأى الرئيس «السادات» – بأثر رجعى كما يبدو لى، لأنه هو من وصفه فى كتاب بأكمله بـ «القلب الكبير الذى يتسع لحب كل الناس وللإنسانية كافة».

وقاطعنى:

ــ «محمد» بيه ــ أنا أحببت الرئيس «جمال» ــ لا تنسى أننى أسميت أحد أبنائى على اسمه».

وقلت:

ــ وكذلك فعل الرئيس «السادات».

وسألنى: هل أسميت أحدا من أبنائك باسم الرئيس «جمال»؟!!

ــ وأجبت بالنفى، بل اخترت لأبنائى أسماء عربية ــ تقليدية ــ وسهلة: «على» ــ و«أحمد» ــ و«حسن».

ــ وسألنى الرئيس «مبارك»:

«حيرتنى علاقة الرئيسين «أنور» و«جمال» ــ لماذا اختلفا معا ــ أنت كنت شاهدا على العلاقات بينهما، وكنت قريبا من الاثنين، حتى وقعت الواقعة بينك وبين الرئيس «أنور».

ــ وقلت:

«فى علاقتى بالاثنين لم أعرف عن خلاف بينهما، ولم يكن هناك لا موضوع للخلاف ولا مجال لوقوعه، فـ«أنور السادات» كان دائما وراء «جمال عبد الناصر»، مناصرا، متحمسا، وبعد رحيله 1970، وحتى بعد حرب أكتوبر 1973، وحين اختلفت معه وابتعدت فإن علاقته بـ«عبد الناصر» كانت كما عهدتها، ثم بدأت ــ بعد سنة 1974 ــ أسمع ــ من بعيد ــ بالتلميح أولا وبالتصريح ثانيا عن خلاف كان، وعن مواقف وقع فيها هذا الخلاف «المزعوم» واستفحل، وفى البداية بدا لى ذلك غير مفهوم، أو حتى غير منطقى!!».

●●●

وتداعى هنا حديث حول العلاقات بين الرئيسين السابقين.

وانتقل الرئيس «مبارك» من هنا إلى خلافى شخصيا مع الرئيس «أنور»، وقال: كثيرا ما أستغربت، فأنا أعرف أنك وقفت معه «جامد» فى أول ولايته، ثم وقفت معه «أجمد» فى معركة مراكز القوى ــ مايو ــ وكنا جميعا نعرف أنك موضع ثقته، وقد رأيت ذلك بنفسى فى القيادة أثناء الحرب ــ وأضاف: «أنه عرف أننى كاتب التوجه الإستراتيچى الذى صدر للمشير «أحمد إسماعيل» بتحديد أهداف حرب أكتوبر، وهذا فى رأيه «قمة الثقة»، ولهذا فاجأه خلافى مع الرئيس حول فك الارتباط، لكنه لم يقرأ ما كتبت عنه ــ هو يعرف أن الخلاف وقع، لكنه لا يعرف لماذا؟! ثم استدرك ضاحكا:

ــ «لا تزعل يا «محمد» بيه، إذا قلت لك إننى لم أكن أقرأ مقالاتك رغم «أننى أسمع أن كثيرين يقرأونها»، ولا أخفى عليك أننى كنت أمنع ضباط (الطيران) من قراءتها».

ــ وقلت بعفوية: «ياه... لعل السبب خير».

ــ قال: «ما كان يحدث أن مقالك «بصراحة» يُنشر فى «الأهرام» يوم الجمعة، ثم يجىء الضباط يوم السبت وقد قرأوه، وكلهم متحفزون لمناقشته، وكثيرا ما كانوا «يتخانقون»، وأنا لا أريد فى السلاح «خناقات» ولا سياسة!!».

ــ أضاف: «أما عنى أنا، فقد كنت لا أقرأ مقالاتك لأنى عندما حاولت ــ لم أفهم ماذا تريد أن تقول فى نهاية المقال».

ــ بصراحة (على رأيك ــ أضافها وهو مازال يبتسم ــ «مقالك دائما ينتهى دون أن «نرسى على بر» ــ ولا نعرف بعده نتيجة Conclusion، قالها بالإنجليزية).

ــ وقلت: «سيادة الرئيس ــ هناك مدرسة فى الكتابة لا ترى أن الـConclusion واجب الكاتب، وإنما واجبه: معلومات صحيحة، واجتهادات فى التحليل واسعة، واختيارات فى المسالك المتاحة للحل مفتوحة، ثم يكون للقارئ أن يختار ما يقنعه، بمعنى أننى لا أريد أن يكون ما أكتبه «مقفولا» على نتائج Conclusion «تعلِّبه»، وإنما أفضل أن أترك للقارئ حريته ــ بمعنى أن تبدأ علاقته بالمقال بعد أن ينتهى من قراءته، وليس حين يهم بقراءته، لأن هدفى تحريضه على التفكير وهو يقرأ، ورجائى أن يصل بتفكيره إلى حيث يقتنع. وقال: «يا عم» ما الفائدة إذن أن يقرأ الناس «لكاتب كبير»؟! ــ لابد أن «يرسيهم على بر». وقلت: أنا أريد للقارئ أن يرسو على «بره هو»، وليس على «برى أنا»، وعلق بابتسامة مرة أخرى قائلا: «يعنى عاوز تدوخ الناس يا أخى، قل لهم وريحهم»..

واختصرت قائلا: «على أية حال فهناك مدارس متعددة فى الكتابة!!».

ــ وعاد «مبارك» إلى سؤاله عن العلاقات بين الرئيس «السادات» وبينى ــ فقال:

«الغريب جدا أننى أحسست أن علاقته بك كانت Love - Hate Complex، قالها أيضا بالإنجليزية (عقدة محبة وكراهية فى نفس الوقت).

هو بالحق كان يتحدث كثيرا عنك بالتقدير، لكنه يأخذ عليك أنك تريد أن تفرض عليه رأيك».

قلت مستغربا:

«سيادة الرئيس ــ كيف يمكن لصحفى أن يفرض رأيه على رئيس الدولة؟!!».

رئيس الدولة عنده السلطة كلها ــ وأدواتها تحت يده ــ فكيف أستطيع أنا أو غيرى ــ من الكُتَّاب والصحفيين ــ أن نفرض شيئا عليه؟! ــ ربما يفرض عليه قائد جيش لديه سلاح، أو رئيس حزب لديه تنظيم، أو وزير داخلية عنده بوليس، أما الصحفى فلا يملك غير عرض وجهة نظره ولا أكثر، وهو يضعها أمام الرأى العام إما أن يأخذ بها أحد أو يعرض عنها، فتلك مسألة أخرى خارج قدرة أى صحفى!!

ثم قلت: العكس هو الصحيح فيما أظن، فرئيس الدولة هو فى العادة من يريد فرض رأيه على الصحفى، وهنا المشكلة!!

أضفت بوضوح يجعل موقفى واضحا أمامه:

«وفيما يتعلق بموقفى مع الرئيس «السادات»، فإننى لم أقتنع بما اتخذ من سياسات أثناء أكتوبر وبعدها عندما جاء «هنرى كيسنجر» وأقنع «السادات» وتصرف الرئيس على أساس أن الولايات المتحدة تملك 99% من أوراق حل أزمة الشرق الأوسط، وأن «هنرى كيسنجر» هو من يمسك بالقرار السياسى الأمريكى ــ وكان لى رأى مختلف، وقد تمسكت به وفى ذهنى أن الرئيس الأمريكى بنفسه أو بوزير خارجيته غير قادر على الفعل لأسباب كثيرة، حتى لو أراد، وفى الأوضاع الحالية فإن الإدارة الأمريكية فى شلل بسبب ورطة الرئيس فى فضيحة «ووترچيت».

واستطردت:

«ومن جانبى فلم أستطع غير التحفظ على هذه السياسة الجديدة، وقد عبَّرت عن أفكارى فى أكثر من عشر مقالات ضايقت الرئيس «السادات»، واعتبر أننى بكتابتها أعرقل توجهاته، ومن هنا كان ضيقه.

وفى هذا الموضع من الحديث قلت للرئيس إن ذلك الخلاف قصة طويلة، ولا أريد أن أضيع وقته فيها، لكنه طلب أن يسمع، واستدعى أحد سكرتيريه وأمره بتأجيل موعد كان لديه فى الساعة العاشرة والنصف.