الأحد، 19 فبراير 2012

محمد حسنين هيكل (الحلقة السادسة عشرة والأخيرة) : مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان .. عقدة التوريث

أسئلة كثيرة لــ(مبارك) عن التوريث .. وكل مرة رد مختلف!!

مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان (الحلقة السادسة عشرة والأخيرة) .. عقدة التوريث

محمد حسنين هيكل كانت قضية «التوريث» هى الدليل والإثبات الأظهر لمقولة أن الذين يعرفون كل شىء عن «مبارك» ــ هم فى الواقع لا يعرفون شيئا عنه!!

فلقد توصَّل كثيرون ممن يعرفون «مبارك» إلى أنه يريد توريث ابنه الأصغر، وأن ذلك مشروع يعمل جادا لتحقيقه، ولم أكن واحدا من الذين يعرفون «مبارك»، ومع ذلك فقد كان إحساسى ــ دون دليل يسنده ــ أن الرجل فى حسه الداخلى الدفين لا يريد ذلك، لا بتفكيره ولا بشعوره، بل لعله ينفر من الحديث فيه، لأنه يذكِّره بما يتمنى لو ينساه!!

وبمعنى أكثر وضوحا فهو لا يمانع أن يرث ابنه رئاسته، لكن تصرفاته تشى بأنه ليس مستعدا أن يحدث ذلك فى حياته، وهو فى مأزق حقيقى، لأنه بذلك الحال فى وضع رجل يقبل ولا يقبل، يقبل بغير أن تكون إرادته حاضرة فى القبول، ولا يقبل مادامت إرادته حاضرة!!

والقريبون منه يضغطون عليه ويواصلون الضغط، وإصرارهم أنه إذا لم يحدث التوريث فى حضوره وإرادته، فإن تحقيقه ضرب من المستحيلات فى غيابه وغياب سلطته!!

والعقدة أن الرجل ليس مستعدا فى قرارة نفسه، لكنه يجارى ويبدى من الإشارات ما يفيد معنى القبول، وهو يماطل ويراوغ ولا يقولها «نعم» صريحة أو «لا» قاطعة، لأنه يريد أن يحمى سمعه من ضغط «ناعم» مرات مثل لمس الحرير، و«ثقيل» أحيانا بوزن طن من الحديد!!

وفى تلك الأحوال راجت أحاديث عن خطط تُرسم، وسيناريوهات تُعد، ولا تنتظر إلا مناسبة مواتية أو تبدو مواتية، ثم يطرح المشروع نفسه، وتمر المناسبات ولا شىء يحدث!!

●●●

ووصل الإلحاح على الخطط والسيناريوهات إلى حد الجزم بأنه كاد أن يتحقق فعلا يوم عجز الرئيس «مبارك» عن إلقاء حديثه أمام مجلس الشعب فى شهر نوفمبر 2003، فقد قيل والرواة من الداخل أنه حين عجز الرئيس وكاد يسقط على الأرض وتأجلت الجلسة قُرابة ساعة فى انتظار مقادير خارج حساب البشر ــ خطر ببال أحد «أبرز» رجال الحاشية أنه فى حالة حدوث المكروه الذى كان يحوم حول القاعة التى نُقل إليها «مبارك» مُحاطا بأطبائه ــ أنه من المتصور أن يدخل رئيس مجلس الشعب ليعلن أن قضاء الله نفذ، وبينما المجلس مأخوذ بالمفاجأة، غارق فى الدموع والأحزان ــ يتقدم عدد من نواب الحزب الوطنى باقتراح مبايعة الابن وفاء للأب وتكريما له واستمرارا لمنهجه، ولم يكن الشك يخالج أصحاب هذا الاقتراح فى أن التصويت عليه بالموافقة سوف يكون ساحقا.


 مبارك في إحدى جلسات مجلس الشعب

والمدهش ــ وهذا الجزء من الرواية تسنده شواهد ــ أن أصحاب هذا الاقتراح تداولوه همسا، بينما كان أطباء «مبارك» يحيطون به يرسمون القلب، ويقيسون النبض، ويغرسون الإبر، وغيرهم مشغول بما بعد ذلك إذا فشلت جهودهم، وللدقة فليس فيما سمعت أن أحدا فاتح قرينة الرئيس «مبارك» فى هذا الأمر أثناء الأزمة، فقد شاء من تداولوا الفكرة «ألا يسببوا لها حرجا أثناء لحظات قلقها، كما أنهم خشوا أن يتبدى حرجها بردة فعل عفوية بالتردد»، وقد مضوا فى تصرفهم، حتى جاء أحد الأطباء يقول لهم «إن الرجل بخير، وأنه يستطيع خلال ربع ساعة من الآن أن يعود لإنهاء خطابه، حرصا وتجنبا للأقاويل، لو أنه خرج من المجلس دون أن يراه أحد من النواب الجالسين فى قاعة مجلس الشعب!».

وفاتت الفرصة لكن الحالمين بالخطط والسيناريوهات لم ينسوا، فقد بدت لهم فرصة ــ وتكرر نفس الخاطر عندما قصد الرئيس «مبارك» إلى «هايدلبرج» لعملية جراحية ظنوها غير مأمونة ــ وتكرر نفس الشىء عندما بدأ التفكير فى الرئاسة الخامسة لـ«مبارك»، واقتراح الحالمين هذه المرة أن يجىء الرئيس فى اللحظة الأخيرة ويوجِّه خطابا مؤداه «أنه لاعتبارات العمر والصحة يقدم لهم ابنه بديلا له»، لكن المحاولات كانت تصل إلى نقطة معينة، ثم يبدو فجأة أن اندفاعها يتباطأ، وأن خُطاها تتعثر حتى تتعطل تماما، وتدور العجلة كما ظلت تدور منذ سرت فكرة التوريث على استحياء مع مطلع القرن الحادى والعشرين!!


 مبارك في ألمانيا بعد إجراء الجراحة له

ومع أنى آثرت قضية «التوريث» مبكرا فى محاضرة شهيرة فى الجامعة الأمريكية (مساء يوم 18 نوفمبر 2002)، وقد لمحت وسمعت ما يثير التوجس والريبة، كما لمح وسمع غيرى فيما أظن ــ إلا أن أحدا لم يكن متأكدا من الطريقة أو من الموعد الذى ينجلى فيه الشك، ويرتفع الستار!!

وظلت التكهنات حول الموضوع حائرة على الأفق باستمرار، وتكاثر السؤال بمناسبة وبغير مناسبة!!

● وفيما يعرف العارفون والأغلب أنه الأقرب إلى الصحة، فقد كان السلطان «قابوس» أول من سأل الرئيس «مبارك» عن مشروعه لابنه، وكان الابن قد عاش خمس سنوات تقريبا فى بيت يملكه أحد رجال الأعمال من حاشية السلطان فى حى «كينسنجتون» فى لندن، وبالتالى فإن «سلطان عمان» أصبح بين أوائل من عرفوا بخطط انتقال الابن من بيت «كينسنجتون» فى لندن إلى بيت الرئاسة فى القاهرة.

وكان رد «مبارك» على السلطان طبقا لهؤلاء العارفين: «أن قرينة الرئيس قلقة أن تطول إقامة ابنها فى لندن، ومن ثم تصعب عليه العودة إلى مصر، ثم إن بقاءه فى لندن ربما ينتهى بزواجه من إنجليزية أو أجنبية، وهى لا تريد ذلك، وأنها بحثت فى أوساط العائلات المصرية التى تعيش فى لندن عن عروس مناسبة لابنها، ولم تعثر على مرشحة تتوافر لها المواصفات التى تطلبها، لكنها سوف تواصل البحث هناك وهنا، آملة فى التوفيق!!

● وكان السائل الثانى هو «معمر القذافي» الذى لاحظ ظهور الابن منتظما على الساحة السياسية المصرية (ولعل الموضوع كان يهمه كسابقة مضاعفة إلى ترسيخ منطق التوريث فى النظام الجمهوري)، وكذلك جاء سؤاله مباشرا ــ وربما فجا ــ عما إذا كان هناك تفكير فى التوريث على طريقة «بشار».

لكن الرئيس «مبارك» استنكر، وفاجأ «القذافى» بقوله: «إن تجربة «بشار الأسد» غير قابلة للتكرار فى مصر، وأن مصر ليست سوريا، وأيضا فإن النظام فى مصر جمهورى، والنظام الجمهورى لا يعرف توريثا للحكم».

ثم كان بعدها أن الرئيس «مبارك» أعلن هذا الرأى على الملأ.


مبارك والقذافي

وأضاف «مبارك» لـ«القذافى»: «أنهم فى رغبتهم لاستعجال عودة الابن ــ رأوا إغراءه بشاغل جديد يستهويه، وأنهم أعطوه بعض المهام السياسية «يتسلى بها»، «فلا نصحو ذات يوم فإذا هو يفاجئنا بأنه عائد إلى لندن، ثم نسمع أنه تزوج واستقر هناك!!».

وبالفعل فإن «مبارك» (الأب) كان محقا فى مخاوفه، لأن الابن حتى عندما عاد من لندن، جاء ومعه مشروع زواج من فتاة نصف بريطانية ونصف إيرانية، وقد لحقت به الفتاة ونزلت فى بيت للضيافة شهورا، ثم استطاع «حلم الرئاسة» أن يزيح «خيالات الغرام»!!

● وكان السائل الثالث أجنبيا، هو الرئيس الفرنسى «چاك شيراك»، وجاء سؤاله أثناء لقاء بين الرجلين فى قصر «الإليزيه» فى باريس فى فبراير سنة 2004، وجاء رد «مبارك»: بأن كل الذى يتردد فى هذا الصدد شائعات ينشرها بعض الصحفيين، وهدفها الإساءة إليه (إلى الأب)، بينما كل ما حدث أنه يستعين بابنه فى إدارة مكتبه كما يفعل الرئيس «شيراك» نفسه مع ابنته.

ويومها وافقه الرئيس «شيراك» على أنه بالفعل يستعين بابنته «كلود»، واختارها فعلا مساعدة له، مختصة بالعلاقات العامة.

●●●

● ومع اللغط المتزايد حول قضية التوريث فى مصر، فإن الأسرة الحاكمة السعودية أبدت اهتماما واضحا، وكذلك فإن أحد كبار أمرائها وجَّه السؤال إلى الرئيس مباشرة، وسمع رده:

ــ أنه لا يريد التوريث لابنه، وأول الأسباب أنه لا يريد أن يورِّث ابنه «خرابة»، وكان الرد مفاجئا لسامعه!!

●●●

● لكن يبدو أن الساسة البريطانيين كانوا يعرفون أكثر، فقد جرى اتصال مع السفير البريطانى فى القاهرة سنة 2002، وهو يومها السير «چون سوير» John Sawyer، (وهو يشغل الآن منصب المدير العام للمخابرات البريطانية الخارجية)، لسؤاله «إذا كان يمكن الترتيب لعلاقات أوثق بين نجل الرئيس وبين القيادة فى حزب العمال البريطانى الجديد؟!

وكان الابن وقتها قد بدأ الخروج والظهور على الساحة السياسية ضمن ما سُمى بعملية تجديد شباب الحزب الوطنى، وانطلاقة الفكر الجديد فى أمانة السياسات، وعليه فقد كان داعى الطلب المصرى هو الاهتمام بتجربة «تونى بلير» الذى بدا لمن يعنيهم الأمر فى القاهرة، شابا نجح فى النزول بـ(الباراشوت) على رئاسة الحزب ورئاسة الوزارة، وظن هؤلاء المعنيون بالأمر فى القاهرة أن «بلير» نموذج مدهش يستحق النقل عن أعرق البلدان الديمقراطية!! ــ وعاد السفير البريطانى يحمل ردا بالموافقة والترحيب.


 جمال مبارك

(ولم يكن «چون سوير» سفيرا عاديا لبريطانيا فى القاهرة، وإنما هو فى الأصل «رجل مهام خاصة»، وكان تعيينه فى سفارة القاهرة اختيارا لما هو أكثر من سفير، فقد كانت مهمته الحقيقية أثناء وجوده فى العاصمة المصرية هى التمهيد والتحضير السياسى لعملية غزو العراق سنة 2003، وبالفعل فإنه ما كاد الغزو يبدأ حتى نُقل «سوير» من «القاهرة» إلى «بغداد» ممثلا لبريطانيا على قمة سلطة الاحتلال فى «بغداد»، لكنه عجز عن إثبات وجوده، لأن المفوض الأمريكى للاحتلال «بول بريمر» لم يكن يريد شراكة بريطانية، وإنما يريدها علما أمريكيا لا ترتفع بجانبه أعلام!!).

ورحَّب الجميع فى حزب العمال وفى رئاسة الوزراء بما طلبوه فى مصر، واهتم «تونى بلير» بالذات، لأن السياسة البريطانية راودتها فى ذلك الوقت أوهام نفوذ خاص فى مصر، مع تكليف المجموعة الأوروبية لها (بريطانيا) مهمة رعاية التنظيم السياسى والتطوير الإعلامى، ضمن خطة تحرك على جبهة عريضة نحو العالم الثالث والشرق الأوسط بالتحديد، وكذلك فإن مهمة الاتصال مع لجنة السياسات فى الحزب الوطنى وأمينها («مبارك» الابن) عهد به إلى «بيتر مندلسون»، وهو المسئول الأول عن الحملات الانتخابية، وقد نجح فيها على امتداد ثلاثة انتخابات فاز بها «تونى بلير»!!

واستقبل «بيتر مندلسون» فى القاهرة بحفاوة (حتى بعد أن ترك منصبه فى وزارة التجارة فى حكومة «بلير» بسبب شُبهات حول علاقاته برجال الأعمال!!) ــ ثم أصبح «مندلسون» زائرا بانتظام للقاهرة، بدعوة من أمانة الشباب فى الحزب الوطنى، كما أن وفود أمانة السياسات لم تنقطع عن لندن، وكان بين ملاحظات «مندلسون» وقد سمعتها نقلا عنه «إن مُضيفيه المصريين مهتمين جدا بقسمين بالذات فى تنظيم حزب العمال الجديد: غرفة الدعاية، وغرفة العمليات السوداء، أى المتعلقة بالمهام القذرة (كذلك يسمونها)!!».

● ثم حدث أن الرئيس «چورچ بوش» الابن سأل الرئيس «مبارك» فى الموضوع آخر مرة زار فيها واشنطن فى عهده، ورد عليه الرئيس «مبارك» ضاحكا: «ألم يكن والدك رئيسا ثم جئت أنت هنا بعده؟!!» ــ ورد «بوش»: «إن ذلك كان بالانتخاب الحر، وأن هناك فاصلا مدته ثمانى سنوات، من إدارة «كلينتون» باعدت بين رئاسة الأب ورئاسة الابن!».


 بوش الأبن والأب

ومع أن «مبارك» لم يشأ فيما يبدو أن يناقش أكثر مع «چورچ بوش»، فإن السفارة الأمريكية أيام تولاها السفير «ريتشاردونى» راحت تتابع جهود التوريث فى القاهرة، وتنقل فى برقياتها (وقد أذيع الكثير منها ضمن مجموعة «ويكيليكس»)، تكهنات متزايدة حوله، بما فى ذلك أحاديث منقولة عن أصدقاء لـ«مبارك» (الابن)، وكانت أحاديث هؤلاء الأصدقاء صريحة فى أن التوريث قادم لا محالة، ولن يوقفه شىء، ولا حتى ما يبدو من تحفظ المؤسسة العسكرية حياله!!

وتحكى برقيات «ويكيليكس» نقلا عن السفارة الأمريكية فى القاهرة أن بين هؤلاء الأصدقاء (وقد حذف القائمون على نشر الوثائق السرية أسماءهم عندما نشروها حفاظا عليهم، وإن كانت أسماؤهم قد تسربت فيما بعد) ــ أنه عندما ألح السفير «ريتشاردونى» على بعضهم بقوله «إنه سمع أن المشير «طنطاوى» شخصيا يعارض التوريث لأسباب كثيرة لدى المؤسسة العسكرية فى مصر» ــ كان ردهم وبثقة زائدة «أن «مبارك» يستطيع إعفاء «طنطاوى» من منصبه فى خمس دقائق، وقد قام أحدهم بتذكير السفير الأمريكى قائلا «إن «طنطاوى» ليس أقوى من «أبو غزالة»، وقد رأيتم بأعينكم كيف تمكَّن «مبارك» من إعادة «أبوغزالة» إلى بيته عندما أراد ذلك، ولم يستغرق منه القرار جهدا، ولا ترتبت عليه متاعب فى القوات المسلحة ــ كما يردد المتشككون من المُعادين للابن الآن!!».

●●●

على أن الأنباء راحت تتسرب من محيط الرئاسة ذاته، بأن الرئيس أفصح لمن زاد إلحاحهم عليه أنه لا يستطيع مجاراة ما يطلبون منه، وأن عليهم تخفيف الضغط لأن المؤسسة العسكرية ليست راضية عن «التوريث»، وهو يقوم بكل ما يستطيع من جهد للإقناع وللتحضير، لكن المقاومة مستعصية، والمسألة ليست بالسهولة التى يتصورها من يلحون عليه بأنه «الآن» لينفذ ما يطلبون، وإلا ضاعت فرصته.

وتسربت فى محيط الرئاسة قصص وروايات عن مشاجرات علت فيها الأصوات.

وكانت الحقيقة معقدة.

صحيح أن المؤسسة العسكرية بالفعل كانت تعارض، وقد أرادت أن تجعل معارضتها معروفة لدى الرئيس «مبارك».

إلا أن الصحيح أيضا أن «مبارك» استخدم ما بدا له من معارضة المؤسسة العسكرية وكرره وضغط عليه، لأنه وجد فيه ما يوافق شعورا غامضا فى أعماقه ينفر من حديث «التوريث»!!

وفى الحقيقة فإن تحفُّظ المؤسسة العسكرية على «التوريث» ورد ضمنا أثناء الاستفتاء على تعديلات دستورية جرى تفصيلها خصيصا على مقاس الوريث سنة 2006، وجرى إقرارها وسط معارضة متزايدة، ورفض شعبى واضح، جعل المشير «محمد حسين طنطاوى» يبدى رأيا، مؤداه «أنه وكل القادة يرجون الرئيس مراعاة قاعدة مستقرة فى السياسة المصرية تنأى بالقوات المسلحة عن أى دور يفرض عليها احتكاكا بالداخل السياسى».. (وذلك تعهُّد وقع تخطيه مرة واحدة من قبل أثناء مظاهرات الطعام 17 و18 يناير 1977، اتسع نطاقها وخرجت عن سيطرة البوليس، ويومها وكان المشير «محمد عبدالغنى الجمسى» وزيرا للدفاع، وكان شرطه لتدخل القوات المسلحة واستعادة سيطرة الدولة أن يُعلَن عن إلغاء الزيادات فى الأسعار، وبعدها وحين يزول السبب الذى أدى إلى اندلاع المظاهرات ــ تقوم القوات المسلحة بالمساعدة على إعادة الاستقرار والسلام الداخلى للوطن!!).

والآن كانت الرسالة الواضحة فيما قاله المشير «طنطاوى» أن القوات المسلحة لا تريد أن يزج بها فى مشاكل داخلية قد تنشأ من رفض شعبى لقبول «التوريث».


 المشير حسين طنطاوي

●●●

لكن الغريب أن الرئيس «مبارك» لم يظهر منه ضيق بهذا التحذير، وكانت كثرة إشارته له دليل على أنه لاقى شيئا بالقبول عنده، وتلك قضية تحتاج إلى بحث نفسى يصل إلى العمق البعيد عما هو كامن ومكبوت!!

والأشد غرابة أن الرئيس «مبارك» نفسه كان بين الذين شعروا أن الهمة الزائدة فى البحث عن عروس مناسبة للابن كانت جزءا من عملية تأهيله لإرث الرئاسة، باعتبار أنه من الصعب على مجتمع محافظ مثل المجتمع المصرى أن يقبل برئيس «أعزب»!!

●●●

وكالعادة فإن كل فعل له رد فعل، كما أن كل تصرف مخالف للطبيعة له ضرائبه المضاعفة، ومن ذلك أن أصبح شائعا على نحو مقلق أن حديث «التوريث» أثر سلبا فى أجواء الأسرة الرئاسية، لأن الابن الأكبر أحس أن الأصغر نال الحظوة، وبدأت بين الأخوين جفوة تحولت إلى هوة، ورغم السواتر من كل نوع فقد رأى الناس طرفا من مظاهر تردى العلاقة بين الأخوين، فالأخ الأكبر ــ الذى يعتبر نفسه صاحب الاستحقاق الطبيعى (إذا كان هناك حق) ــ راح ينتهز الفرص ليؤكد وجوده، ولعله اختار مجال الرياضة لظهوره، وفيها ملاعب كرة القدم وهو من عشاقها (وبالتالى فهو الأقرب إلى جماهيرها وهم حزب أغلبية فى البلد).

وفى مباراة مصر والجزائر خرج الابن الأكبر على الناس بما تصوره تعبيرا عن الوطنية المستثارة ــ دون داعٍ ــ حتى وصل إلى حد الطلب علنا من السفير الجزائرى أن يرحل عن مصر، ويتحداه على شاشة التليفزيون موجِّها له الخطاب: ماذا تنتظر لترحل؟!، ويضيف ألفاظا تسىء للعلاقات بين البلدين بكل تأكيد، وزاد على ذلك أن الابن الأكبر راح يكثِّف حملاته وظهوره على الساحة العامة، بما فيها لقاءات ودية ــ غير معلنة ــ مع بعض الكُتَّاب المعروفين بمعارضتهم للأخ الأصغر وتوريث الحكم له!! ــ وكان ذلك مناخا مقلقا فى بيت الرئاسة إضافة إلى توترات أخرى!!

ووصلت العلاقات بين الأخوين إلى مشاهد مؤسفة، لابد أن وقعها كان قاسيا على الأب!!


 جمال وعلاء مبارك

●●●

والمدهش أن الرئيس «مبارك» راوده الإحساس بالتوجس والارتياب، حين وصلت إليه نتائج انتخابات مجلس الشعب الأخيرة أواخر سنة 2010، فقد أحس ــ ربما ــ أن هناك محاولة لتمرير مخطط التوريث، حتى دون موافقته وحتى أثناء حياته، فقد لاحظ أن حجم الأغلبية التى حصل عليها الحزب الوطنى فى مجلس الشعب زائد عن الحد، ولعل هذه الزيادة ــ أوحت لعقله الباطن ــ أنها تمهيد لتوريث قد يُفرض عليه هو فرضا ــ وبقرار من البرلمان الجديد عندما يحين موعد اختيار مجلس الشعب لمرشح الأغلبية للرئاسة فى موعد أقصاه يوليو 2011.

ومن المفارقات أن بعض المراقبين أدهشهم أن الرئيس «مبارك» تراجع بسرعة أكثر من اللازم ــ فى تقديرهم ــ ثم استسلم دون مقاومة جدية لمطلب التنحى بعد ثورة 25 يناير 2011 ــ وكان بينهم من وجدوا لذلك تفسيرا، مؤداه أن الرئيس «مبارك» أراح نفسه وتنحى، وهو لم يتنح لنفسه فقط وإنما أزاح ابنه وسط الزحام قبل أن يخرج هو من الصورة عندما عيَّن السيد «عمر سليمان» نائبا للرئيس، وكانت الحوادث أسرع من الجميع!!

●●●

ومن المفارقات أن قضية «التوريث» كانت الشاغل الكبير لقوى خارجية مهتمة بالشأن المصرى، أولاها الولايات المتحدة الأمريكية، والشاهد أن مراكز المخابرات المدنية والعسكرية فى الولايات المتحدة وطوال أحاديث «التوريث»، خصوصا فى الأشهر الأخيرة من سنة 2010 ركزت على الموضوع، وكرَّست جهودا، وخصَّصت لجانا ومؤتمرات تبحث تصورات ما يمكن أن يجرى فى مصر بعد «مبارك»، وربما أن أهم تقرير أُعد وقتها هو تقرير مجموعة التقديرات فى كلية الحرب الأمريكية للجيش الأمريكى (S.S.I).

ومن الملاحظ أن هذا التقرير صدر بتاريخ سبتمبر 2011، ومع أن الحوادث فى مصر سبقته ــ فإن كلية الحرب الأمريكية نشرته، واعتبر ما فيه ساريا، حتى بعد استبعاد احتمالين بين السيناريوهات الخمسة التى تصورتها لما بعد «مبارك».

استبعدت أن يواصل «مبارك» نفسه السلطة (مرة سادسة كما كان اتجاهه واتجاه الحرس القديم فى الحزب الوطنى).

ــ أو أن يرث ابنه عنه رئاسة مصر (كما كان يريد الابن، ويريد معه من سموا أنفسهم بالحرس الجديد).

ثم طرح التقرير ما تبقى من تصورات، مركزا على 3 سيناريوهات تتحرك من خلال عملية صراعات بين التيار الإسلامى (الإخوان والسلفيين)، وبين القوات المسلحة، وبين عدد من الشخصيات والتنظيمات الحزبية أو المستقلة، لكن التقرير الأمريكى لم يقطع بنهاية محددة للصراع، مما يضع الولايات المتحدة وسياساتها تجاه مصر فى وضع ترقب وتحفز كل الجبهات، ذلك أن السياسة الأمريكية ومعها تقديرات القيادة العسكرية الأمريكية بالذات تعتبر مصر بلدا بالغ الأهمية بالنسبة لها، فهى القاعدة التى ترتكز عليها حركتها فى المنطقة كلها، والمقولة الإستراتيچية المتكررة بإلحاح فى جميع التقديرات ولدى كل مراكز صناعة القرار هى «أن مصر لا يجب أن تضيع من يد الولايات المتحدة الأمريكية مهما كانت الوسائل اللازمة لتحقيق ذلك، ومهما كانت درجة المرونة أو العنف فى الممارسة السياسية الأمريكية ضمانا لتحقيقه!!».

وكذلك فإن السياسة الأمريكية مضت تلاحق الحوادث، وتتعامل مع التطورات، وتتحرك بكل طاقاتها، والهدف المطلوب بإلحاح «مصر يجب ألا تضيع من يد الولايات المتحدة مرة أخرى» ــ وذلك هو الشبح المعلق على أفق المستقبل فى مصر ــ هذه اللحظة الخطرة من التاريخ!!

محمد حسنين هيكل (الحلقة الخامسة عشرة) : مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان .. الاتصال الأخير!

(مبارك) يسأل : (ما هو معنى احتياطى إستراتيجى؟!) .. (هذا كلام لا يودى ولا يجيب)

مبارك وزمانه من المنصة إلي الميدان (الحلقة الخامسة عشرة) .. الاتصال الأخير!

محمد حسنين هيكل كان آخر اتصال مباشر بين الرئيس «مبارك» وبينى بعد ظهر 2 ديسمبر 2003، وكنت فى بيتى الريفى فى «برقاش» عندما قيل لى إن الرئيس «مبارك» على التليفون يريد أن يتحدث معى، وعلى نحو ما فإن تلك لم تكن مفاجأة ــ لأنه سبقها ما مهَّد لها!

سبقها أن الأستاذ «إبراهيم المعلم» (رئيس مجلس إدارة دار الشروق) اتصل بى من «فرانكفورت»، حيث كان يحضر المعرض السنوى للكتاب، يقول: «إنه يظن أن اتصالا تليفونيا مهما قد يجرى معى الآن!».

وتساءلت، وكان التفصيل لديه أن وزير الثقافة الأستاذ «فاروق حسنى» اتصل به فى «فرانكفورت» يطلب منه رقم تليفون بيتى فى «برقاش»، «لأنهم يريدون» أن يتصلوا بى.

وزادت دهشتى لأن تليفونات «برقاش» معروفة فى مكاتب الرئاسة، فإذا كان هناك من يطلبها الآن، إذن فإن الاتصال يجرى من خارج القنوات الطبيعية.

●●●

والغريب أننى استبعدت أن يكون الرئيس «مبارك» نفسه هو الذى يريد التحدث إلىَّ، فقد كنت أعرف أن ضيقه بما أكتب وأقول قد بلغ مداه، ضايقته بشدة رسالة بعثت بها إلى الجمعية العامة لنقابة الصحفيين، وهى تبحث مشروع قانون جرى التفكير فيه ومطلبه تقييد حرية الصحافة، وطلبت النقابة حضورى، وآثرت أن أكتفى برسالة إلى الاجتماع موجهة إلى مجلس نقابة الصحفيين، تلاها نيابة عنى السكرتير العام للنقابة فى ذلك الوقت الأستاذ «يحيى قلاش»، وكان النص يحتوى على ما يمكن اعتباره مواجهة مباشرة:

1ــ إن هذا القانون استفزنى كما استفزكم، واستفز الرأى العام وحملة الأقلام وكل القوى السياسية والنقابية والثقافية فى هذا البلد.

2ــ إن الأسلوب الذى اتبع فى تصميم هذا القانون وإعداده وإقراره هو فى رأيى أسوأ من كل ما احتوته مواده من نصوص، ذلك أن روح القانون لا تقبل منطق الخلسة والانقضاض، وإنما تقبل منطق إطالة النظر والحوار، والقانون بالدرجة الأولى روح، وإذا نُزعت الروح من أى حياة فما هو باقٍ بعدها لا يصلح لغير التراب!

إن روح القانون فى رأيى أهم من كل نصوصه، حتى إن استقام قصد النصوص وحَسُنَت مراميها.

وأشهد آسفا أن وقائع إعداد القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع أحكام.

3ــ إن هذا القانون فى ظنى يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها، وهى تشعر أن الحوادث تتجاوزها، ثم إنه لا تستطيع فى نفس الوقت أن ترى ضرورات التغيير، وهنا لا يكون الحل بمعاودة المراجعة والتقييم، ولكن بتشديد القيود وتحصين الحدود، وكأن حركة التفكير والحوار والتغيير تستحق أن توضع فى قفص.

●●●

لقد أحزننى تصريح منسوب للرئيس «حسنى مبارك» منشور فى كل الصحف أمس ــ الخميس ــ نُسب فيه إليه قوله بأنه «إذا التزم الصحفيون بميثاق الشرف فإن القانون الجديد ينام من نفسه»، ثم نُسب إليه أيضا قوله «إنه يرحب بالرأى شرط أن يكون صادقا».

ومع كل الاحترام لمقام رئاسة الدولة فإن القوانين لا تعرف النوم، وإنما تعرف السهر، وهى لا توضع لتنام بكرم أو بسحر المغناطيس، وإنما قيمة القوانين أن تعلو حركتها الذاتية فوق إرادات الأفراد.

●●●

وأصبح تعبير «سلطة شاخت» فى مواقعها على كل لسان، بل أصبح شعار كل المعارضين لسياسة «مبارك»، وظل كذلك حتى لحقته قضية التوريث، ثم جاءت محاضرة لى فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة نوفمبر 2002، تحدَّثت فيها عن احتمالات التوريث، ونبَّهت إلى مخاطره، وثارت عواصف الغضب فى الرئاسة، وفى الحزب، وفى دوائر السلطة والحكم، وكان داعى الغضب فجائيا: من ناحية لأن السر تفجر فى العلن، ومن ناحية أخرى لأن تفجير السر وقع على غير انتظار، كما أن من يعنيهم الأمر كانوا مشغولين عما يجرى فى القاهرة باحتفالات افتتاح مكتبة الإسكندرية، وكانت احتفالات أسطورية ذكَّرت كثيرين بمهرجان افتتاح قناة السويس أيام الخديو «إسماعيل» وقصص الإمبراطورة الفرنسية «يوچينى» (التى كانت ضيفة ذلك المهرجان ولخيمته الكبرى بقرابتها «فرديناند دليسيبس» مهندس مشروع حفر قناة السويس).


احتفالات افتتاح مكتبة الإسكندرية


وكانت محاضرة الجامعة الأمريكية قد أذيعت على قناة «دريم» ثلاث مرات فى يومين، ثم تنبَّه المحتفلون إلى آثارها، فإذا عاصفة الغضب تطيح بكل من كان له دخل فى إذاعتها وتكرار إذاعتها ــ وتركز الغضب على كل رجل وسيدة كان لهما دور فى تكرار إذاعة المحاضرة، وهما المهندس «أسامة الشيخ» (مدير قناة «دريم» وقتها)، والدكتورة «هالة سرحان» (منسقة برامجها).

ونجا صاحب القناة الدكتور «أحمد بهجت» بشبه معجزة، وقال لى بنفسه بعدها: «إن إذاعة هذه المحاضرة كانت على وشك أن تكلفه 2 مليار جنيه، لولا أن قدَّر الله ولطف، واستطاع شرح موقفه لمن يعنيهم الأمر».

إلى جانب ذلك، فإن الصحافة الرسمية كرَّست صفحاتها لحملات ضارية لكلام من نوع تأقلمت على متابعته من باب الرصد السياسى، وبمنطق أن كل قول يدل على قائله بأكثر مما يشير إلى سامعه!

وفى مثل هذا المناخ فقد استبعدت احتمال أن يتصل بى الرئيس «مبارك»، لأن حديث التوريث سوف يفرض نفسه على أى اتصال!

ولكن الرجل بالفعل ــ خيَّب ظنى»!

فهو لم يتحدث عن التوريث بكلمة، وإنما انصب كل ما قال على موضوع آخر لم أتوقعه!

●●●

جاءنى صوت الرئيس «مبارك»، وبدون مقدمات قائلا:

ــ «يا راجل ماذا تفعل بصحتك؟!».

كنت قد وضعت ورقا وقلما على المكتب، أحاول أن يكون لدى سجل حرفى وضرورى لمكالمة تصورتها سياسية، وتوقف القلم فى يدى، أكرر سؤال الرئيس ولكن موجها إليه:

ــ سيادة الرئيس ــ ماذا فعلت بصحتى؟!

قال:

ــ «أنت لا تعطى نفسك فرصة العلاج الضرورى ماذا تفعل عندك؟ لابد أن تسافر فورا إلى أمريكا وتستكمل علاجك هناك، لأن صحتك ليست مهمة لك فقط، ولكن للبلد، فأنت أديت خدمات كبرى للشعب، ودورك فى الحياة العامة يشهد لك».

ودُهشت حقيقة فقد كنت أعرف ما فيه الكفاية عن رأى «مبارك» فى مواقفى، وفيما أكتب أو أقول تعبيرا عنها، ولم يكن فى استطاعتى ــ وبظاهر الأمر أمامى ــ دون حاجة إلى استعادة مخزون الذاكرة أو استقراء النوايا غير شكر الرئيس على بادرته، وكان ردى: «إننى متأثر باهتمامه، شاكر لفضل سؤاله»، ثم شرحت:

«إن أحوالى الصحية والحمدلله الآن طيبة، وهو يعرف أننى أجريت عملية جراحية منذ أربع سنوات، وذكَّرته بأنه وقتها تفضَّل وسأل عنى ثلاث مرات فى مستشفى «كليفلاند» فى الولايات المتحدة، وبعد العملية فإننى عُدت إلى «كليفلاند» عدة مرات، وقصدت إلى «أوماها» مرة للفحص والمتابعة، والآن فإن ابنى الأكبر وهو أستاذ فى كلية الطب يتابع أحوالى، وهو على اتصال منتظم بأطبائى فى أمريكا، وصحتى ــ والفضل لصاحب الفضل ــ مستقرة، لم يطرأ عليها داعٍ للقلق من جديد!

وقاطعنى الرئيس بحزم قائلا: لا، لا، هذا المرض لا يُعالج مرة واحدة، واسمع منى، واستطرد يشرح وجهة نظره:

«مرة أخرى صحتى مسألة مهمة، ولابد أن أعود إلى أمريكا وأكرر العودة»، ثم إن هناك موضوعا يريد أن يتحدث فيه معى بصراحة، «رغم أنه يعرف الكثير عما وصفه بـ«الكبرياء»، لكنه برغم ذلك مضطر أن ينبهنى إلى «أن تكاليف العلاج فى أمريكا «نار» مهما كانت مقدرة صاحبه»، ثم يصل الرئيس إلى موقع الذروة فى كلامه فيقول:

«هذه المرة تكاليف علاجك ليست على حساب الدولة، وليست على حساب الأهرام، وإنما من عندى شخصيا، وبينى وبينك مباشرة دون غيرنا».

واعترضت: «سيادة الرئيس أرجوك، الدولة لم تتحمل عنى نفقات علاجى فى أى وقت»، والأهرام «كذلك لم يتحمل مليما من نفقات علاجى ــ حتى عندما كنت لسبع عشرة سنة رئيسا لمجلس إدارته ورئيسا لتحريره ــ فقد تحمَّلت باستمرار تكاليفى بنفسى، واعتبرت ذلك حقى ــ وحق الآخرين، خصوصا إذا كنت أقدر عليه».

ورد الرئيس «أنه يعرف أن الدولة لم تتكلف بعلاجى»، ولا الأهرام، «لكن ضرورات صحتى تقتضى الآن شيئا آخر، حتى لا يعود المرض»، وكرر «أن المسائل المالية» سوف تكون معه شخصيا، ولك أن تطلب بلا حدود وبدون تحفظ، وأنا أعرف الكثير عن «عنادك»، ولكن «.. وتوقف قليلا ثم استطرد»:

«محمد بيه.. المرض مالوش كبير!!» ثم يستكمل العبارة: «السرطان ليس لعبة» وعلاجه مكلف، وفى أمريكا بالذات تكاليفه «ولعة».

و«نحن» جربنا هذه التكاليف فى حالة «سوزى» (يقصد السيدة قرينته)، وكانت هذه الإشارة إلى أقرب الناس إليه دليل حميمية آسرة.

والحقيقة أن إحساسا متناقضا بدأ يتسرب إلى فكرى:

ــ من ناحية فإن الرجل فى كلامه يعبر عن اهتمام واضح بأمرى، وهذا يستحق اعترافا بفضله.

ــ ومن ناحية أخرى فإن هذا العرض المالى بلا حدود وبدون تحفظ يتبدى لى غير مريح ــ لا فى موضوعه، ولا فى شكله، ولا فى أى اعتبار له قيمة ومعنى، مهما كان حُسن النية لدى قائله!

ورددت: بلهجة قصدتها واضحة لا تحتمل أى التباس:

«سيادة الرئيس أريد أن أضع أمامك موقفى»:

العملية الجراحية التى أجريتها قبل سنوات نجحت والحمدلله، وطوال هذه السنوات فإننى تحت رعاية طبية أثق فيها، سواء فى مصر أو فى أمريكا، ومنذ عدة شهور فقط استجد عارض عُدت فيه إلى الولايات المتحدة، وظهر والحمدلله أنه أهون مما قدَّرنا.

ولو جد، لا سمح الله، جديد، فسوف أذهب إلى حيث ينصح أطبائى، وفق ما يرون من أحوالى.
وإذا حدث ذلك فإننى والحمدلله قادر على تحمل نفقات علاجى، فالحقيقة أن ما كتبت ونشرت من كتبى بمعظم لغات العالم وفر لى ما أحتاج إليه وأكثر».

وأضفت:

«أننى شاكر لكم كل ما أبديتم من اهتمام وكرم، ولكنى أعتقد أن هناك من يحتاج إلى ذلك أكثر منى، وفى كل الأحوال فإن عرضكم يأسرنى بفضله، وأعد أنه إذا حدث ولم تستطع مواردى أن تواجه ضروراتى، فإننى سوف أعود إليكم، معتبرا ما عرضتم علىَّ نوعا من «الاحتياطى الاستراتيجى»، ألجأ له إذا احتجت، أما الآن فليس هناك ما يدعونى إلى استخدامه!

ورد الرئيس: «أنت لاتزال تعاند، وقلت لك إن المرض «مالوش كبير»، وإن تكاليفه فى أمريكا لا تُحتمل، ثم تقول لى «احتياطى استراتيجى» يعنى إيه «احتياطى استراتيجى!».

وقلت للرئيس والحديث كله يصبح محرجا: «سيادة الرئيس، هل أنا الذى أشرح لك معنى «احتياطى استراتيجى» أنت بخلفيتك العسكرية تعرف ذلك أكثر منى أو غيرى معنى احتياطى استراتيجى، وما أقصده هو أن عرضكم رصيد موجود ماثل فى خلفية تفكيرى، ووجوده فى حد ذاته يطمئننى حتى بدون استعماله، وقد أستدعيه لضرورة قصوى، لكن هذه الضرورة القصوى ليست حاضرة فى هذا الوقت!».

وقال الرئيس:

«هذا كلام يمكن أن تكتبوه فى الجرائد، لكنه «لا يودى ولا يجيب».

وانتهت مكالمتنا بطريقة حاولت كل جهدى أن تكون ودية، دون أن يضايقه اعتذارى ــ قاطعا ــ عن عرضه.

●●●

ولساعات ظل حديثه يلح على تفكيرى، وبالحق فقد كنت حائرا فى تأويل مقاصده:

ــ فهو لم يذكر بكلمة ما قلته فى محاضرة معارضة «التوريث»، ولم يشر إليها بكلمة واحدة خلال مكالمة زادت على عشرين دقيقة.

ثم إنه أبدى حرصا لا يصح لى أن أقابله بشك فى نواياه، لكنى بأمانة تصورت أن المسألة يجب وضعها فى إطارها الصحيح، بمعنى أنه من باب التجنِّى أن أشك فى النوايا، فإنه من باب السذاجة ألا يرد الشك على بالى، وأن يكون لهذا الشك متنفسا!

وعلى نحو ما فقد تصورت أن أسجل الواقعة فى خطاب شكر مكتوب، أبعث به إليه من باب الوفاء، وفى نفس الوقت لكى يكون هناك مرجع لا يترك مجالا لسوء فهم.

وجلست فكتبت له خطابا مختصرا، سجلت فيه مجمل ما دار بيننا، وكان نصه بالحرف:

القاهرة فى 3/12/2003

سيادة الرئيس..

لا أعرف كيف أعبر لكم عن عرفانى بالفضل، وتقديرى لحديثكم التليفونى المستفيض مساء الأمس (الثلاثاء 2 ديسمبر) ــ سؤالا عن صحتى واهتماما بأمرى. واعتقادى أن نصيحتكم بشأن ضرورة ذهابى لفحص شامل فى الولايات المتحدة الأمريكية نصيحة سديدة النظر، وحقيقية بحكم تقدم العلوم والتكنولوجيا. وبالفعل فإننى كنت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى شهر مايو الأخير على موعد مع الدكتور «أرميتاج» عميد كلية الطب فى جامعة نبراسكا (أوماها)، الذى قيل لى إنه من أبرز الاختصاصيين فى العارض الصحى الذى تعرضت له أوائل الصيف، وسبَّب ضغطا على القصبة الهوائية كانت له مضاعفات حتى على صوتى. وقد وضع الدكتور «أرميتاج» خطة علاج جرى تنفيذها فى مصر، ويبدو لى أن نتائجها ناجحة بدرجة كبيرة حتى الآن، وأنوى بمشيئة الله أن أعود إلى الولايات المتحدة لمراجعة أخرى.

إننى لا أستطيع أن أشرح لكم كيف تأثرت بعرضكم الكريم فى شأن تكاليف العلاج، وكانت عفويتكم آسرة حين أشرتم إلى أنكم ــ وليس مؤسسة أو دولة ــ سوف تتحملون بها، تقديرا كما تفضلتم «لرجل له قيمته»، وداعين إلى أن أطلب بغير حساسية وبغير تحفظ وذلك كرم عظيم. وكان بين دواعى تأثرى أنكم تعرفون ــ سيادة الرئيس ــ مما أكتب وأقول إننى على خلاف مع بعض توجهات السياسة المصرية، وأن تتجلى مشاعركم على هذا النحو الذى تجلت به ــ فإن ذلك دليلا على حِس صادق، يقدر على التفرقة بين العام والخاص، وبين السياسى والإنسانى.

وقد أعجبنى قولكم إن «المرض مالوش كبير» لأن تكاليف العلاج فى أمريكا مهولة، وبالفعل فإننى جربت ذلك مرتين من قبل، لكن الصحة تبقى أغلى ما يحرص عليه الإنسان.

إننى سوف أحتفظ بعرضكم الكريم معى، وسوف أعود إليكم فى شأنه عند الحاجة، معتبرا أنه احتياطى استراتيجى (كما يُقال) يريح وجوده ويطمئن، وذلك فى حد ذاته فضل لا يُنسى، ونبل قصد يستحق كل عرفان ووفاء.

سلمتم ــ سيادة الرئيس ــ مع أخلص الشكر وأعمقه، وتقبلوا موفور الاحترام.

محمد حسنين هيكل


صورة لخطاب هيكل للرئيس مبارك

●●●

وفى الحقيقة فإن هذا النص كان من أصعب ما كتبت على كثرة ما كتبت! فلم يكن فى مقدورى إنكار الظاهر من فضل الرجل، ولا كان فى مقدورى ألا أسجل اعتذارى عن عرضه بطريقة لا تحتمل اللبس، ومن باب الاحتياط فقد اختبرت تأثير الخطاب على غيرى بأن أطلعت عليه على عكس العادة عددا من رؤساء التحرير المتصلين به وقتها، وبينهم الأستاذ «إبراهيم نافع» (رئيس مجلس إدارة «الأهرام»)، والأستاذ «إبراهيم سعدة» (رئيس مجلس إدارة «أخبار اليوم»).

ولم يصلنى من «مبارك» رد ولا اتصال، وإنما كان الذى أبلغنى نوعا من رد الفعل هو الدكتور «أسامة الباز» الذى جاء لمقابلتى يقول لى:



أسامة الباز

«إنه قرأ الخطاب، وأن النص مكتوب بعناية، لكنه («أسامة») فهم بوضوح أننى أردت تسجيل الواقعة».
وقلت لـ«أسامة»: «مرة أخرى أن ما فهمه صحيح!».

والغريب أن أحد الصحفيين من أعضاء لجنة السياسات تفضل مرة وكتب يسألنى ماذا أريد من هذه المعارضة المستمرة لسياسة الرئيس، وهو الذى كان كريما «معك»، وعرض أن يتكفل بعلاجك، وكنت أنت الذى اعتذرت، ورددت ــ على غير العادة ــ على الملأ وفى قناة الجزيرة فى سياق حديث مع مذيعها اللامع الأستاذ «محمد كريشان» «إذا كانوا يعايروننى وقد اعتذرت عن العرض، فكيف إذا كنت قبلته؟!».

●●●

وتوقفت بعدها اتصالاته بى، ولكن حوارى مع سياساته لم يتوقف، حتى وصلنا إلى سنة 2010، وكان رأيى أن نظام «مبارك» قد انتهى تاريخيا، حتى وإن بقى على قمة السلطة فى مصر سياسيا، وأن هناك انتقالا ضروريا للسلطة لابد من الترتيب له، وعرضت تصورا متكاملا يقوم فيه ما سميته «مجلس أمناء للدولة والدستور» بإدارة مرحلة الانتقال، وفى حضور القوات المسلحة ممثلة فى المشير «محمد حسين طنطاوى»، ورشحت لعضويته أسماء رجال طرحها الناس فى أحاديثهم بعفوية مرشحين صالحين للرئاسة، ومن المفارقات أن معظم من رشحتهم الآن على رأس القائمة فى سباق رئاسة الجهمورية بعد 25 يناير 2011.

واحتدمت معركة كبرى:

ذلك أنه عندما طرحت اقتراح انتقال للسلطة يديره مجلس أمناء للدولة والدستور، وأن تكون القوات المسلحة حاضرة فى مشهده، وكان سؤال الصحف الموالية لـ«مبارك»، وربما أطراف أخرى مهتمة بالشأن المصرى العام، وموضع اعتراضهم على صحة المنطق الذى استندت إليه من أساسه: وهو كيف أطالب بعملية نقل بالتوافق للسلطة بعد «مبارك» أثناء وجوده هو شخصيا على رأس السلطة، وما الذى يدفع الرجل إلى مثل هذا التوافق، وهو الذى يريد تأبيد حكمه مادام فى «قلبه نبض يخفق ونَفَس يتردد» (على حد ما قال بنفسه فى خطاب شهير وأخير له)، ثم إن الرجل يفكر فى توريث سلطته، وعناده كله فى نقطة واحدة هو كيف يحدث التوريث أثناء حياته أو بعد عمر مديد عندما يحين الأجل؟!

وكان ردى على كل من سألنى فى الموضوع:

أن كل استجابة سياسية تتوقف على حجم الضغوط الماثلة والمستمرة، ولم يكن فى مقدورى لحظتها أن أضيف: حتى إذا وصلنا إلى النزول فى الشوارع!!

كما أن المخاطر فى كل الأحوال لا يواجهها غير حالة تنبه ويقظة!



مظاهرات ثورة يناير 2011

●●●

وكان السؤال التالى والأشد إلحاحا هو سؤال الانتقال من «مبارك» إلى ابنه، وكان الظاهر والباطن كلاهما يؤمن أنها عملية شديدة الصعوبة، ومحفوفة بالمخاطر، ذلك أن هناك استثمارات مهولة إقليمية ودولية ومصرية كذلك، وكلها تريد استبقاء النظام وإن بغير الرجل! وكان الخطر ــ كل الخطر ــ من عوامل الإقليم، وعوامل الخارج، خصوصا من جانب الولايات المتحدة الأمريكية.

وحين جاء يناير سنة 2011 فقد حدث أن تذكرت ما بدأت به من استعادة لمقولة «أندريه موروا»: «أن غير المتوقع يحدث دائما، وأبعد الظنون أقربها إلى التحقيق»!

ذلك أن الذين وضعوا استثماراتهم المهولة على «مبارك» كانوا أسرع الجميع إلى التخلى عنه بعد أن تجلى إصرار كتل الجماهير وطلائع الشباب معا على أن الشعب يريد «إسقاط الرئيس». وكانت الولايات المتحدة الأمريكية بين أول من سحبوا استثماراتهم على «مبارك»، فقد كان تصميمهم على أن مصر لا يجب أن تضيع من أيديهم مرة أخرى، هو رهانهم الحقيقى.

وهنا فقد كانت تلك هى الصدمة الكبرى لـ«مبارك»، بمعنى أنه حتى وهو يرى بحر المظاهرات، ودرجة الرفض القاطع لابنه، ظل حتى آخر لحظة مقتنعا بأن كله مدبر، وأنها قلة مندسة ولكنها منظمة وموجَّهة، ورفضها له ليس لشخصه وإنما مقصده الحقيقى إسقاط الدولة، وهو مازال قادرا على الصمود، لكن ما فاجأه ولم يكن فى حسابه هو سحب الرهان الأمريكى عليه، وربما تكشف دخائل فكره محادثة تليفونية جرت بينه وبين صديقه «بنيامين أليعازار» حدثت ظهر يوم 15 فبراير 2011، وبعد تخليه عن رئاسة الجمهورية، واختياره الإقامة فى «شرم الشيخ»، وفى هذا الحديث التليفونى وقد نشرت خبره وتفاصيله صحف إسرائيلية عديدة، كما أن «بنيامين أليعازار» نفسه تحدث عنه مطولا، وراويا أن «مبارك» ظل لنصف الساعة يشكو له كصديق من تخلى الولايات المتحدة الأمريكية عنه، ونكرانها لكل ما قام به، والغريب أنه فى انفعاله يعتبر نفسه من ضحايا الجحود الأمريكى، مثله فى ذلك مثل «شاه إيران» ــ الشاه كان ضحية لـ«كارتر»، وهو ضحية لـ«أوباما»!

ثم يضيف «مبارك» طبقا لـ«أليعازار»: أنهم ــ بعض من فى الولايات المتحدة ــ سوف يندمون يوما على تنكرهم له، ومن المحزن أن «مبارك» لم يخطر له أن يندم هو نفسه، ومن المحزن أكثر أن الرجل الذى رآه العالم يدخل ممددا على سرير طبى فى زنزانة محكمة جنايات مصرية ــ بدا غافلا دون إحساس بالكبرياء، لا كبرياء الإنسان، ولا كبرياء التاريخ!

●●●

وفوق ذلك فقد ترك مصر وسط حقل ألغام!


في الحلقة القادمة:

(مبارك) هل كان في أعماقه شعور غامض ينفر من حديث (التوريث) ؟ .. المؤسسة العسكرية بالفعل عارضت التوريث وقد أرادت أن تجعل معارضتها معروفة لدي الرئيس !!

الاثنين، 13 فبراير 2012

هيما صاصا

محمد حسنين هيكل (الحلقة الرابعة عشرة) : مبارك وزمانه مـن المنصة إلى الميدان.. ماذا نعرف عنه ؟!!

مبارك وزمانه مـن المنصة إلى الميدان (الحلقة الرابعة عشرة) .. ماذا نعرف عنه ؟!!

محمد حسنين هيكل كان تعبير الرجل الذى لا يعرفه هؤلاء الذين يظنون أنهم يعرفون عنه كل شىء ــ حاضرا معى أحد أيام نوفمبر سنة 1998، وكنت فيه على موعد فى مؤسسة «هاربر كولينز» على مدخل الطريق 4 الخارج من لندن، متجها إلى «وندسور» و«أوكسفورد». وكان موعدى هناك لاجتماع يبحث قائمة خاصة بالكتب التى تنشرها المؤسسة مع بداية الألفية، وهى قائمة أعدتها مجموعة عمل من مديرى النشر فى الأقسام المختلفة لـ«هاربر كولينز».

وعلى غير ترتيب مسبق جاءت ــ «چوانا» ــ سكرتيرة المدير العام للمؤسسة ورئيس مجلس إدارتها «إيدى بل»، تدعونى إلى لقائه، ومشيت معها نحو مكتبه، وهو قريب من قاعة الاجتماعات التى كنا فيها، وتطل مثلها على الشرفة الدائرية لصحن المبنى، المغطاة بالنباتات المتسلقة تكسو كل جدرانها من الدور السادس إلى الدور الأرضى.

●●●

وعندما دخلت مكتب «إيدى» كان أمامه ملف سميك مربوط بشريط محيط به يمسك أوراقه رزمة واحدة لا تنفرط.

وقال «إيدى بل» وهو يشير إلى الملف:

«لدينا مشكلة تصورنا أنك قد تستطيع مساعدتنا فى حلها، لأنها خاصة بالرئيس «مبارك»!».

وراح «إيدى» يشرح المشكلة.

«أحد الصحفيين الأمريكيين (ذكر اسمه)، عمل مراسلا لجريدته فى القاهرة عدة سنين، واقترح علينا أخيرا أن يكتب كتابا عن «مبارك»، وقبلنا اقتراحه، ووقعنا معه عقدا، ودفعنا له مقدم أتعاب، وعاد (المراسل) إلى القاهرة، فقضى ثمانية أشهر يجمع المعلومات، ويقابل المصادر، ويتقصى الروايات، ثم كتب نصا أوليا عرضه على هيئة التحرير، لكن الهيئة لم تر فى الكتاب مادة كافية تصلح للنشر عن شخصية مهمة فى العالم العربى، وبدا ما سمعته مما لا دخل لى به، لكن «إيدى بل» أضاف:

وفى هيئة التحرير طلبوا من (المراسل) أن يراجع ما كتب، وأن يُعيد كتابة نصه، (وقرروا أن يضيفوا إلى المبلغ الذى صُرف له) ليبحث أكثر ويتوسع بزيادة مواد تجعل الكتاب أكثر جاذبية لقارئ دولى (إنجليزى ــ أمريكى ــ بالدرجة الأولى)، وحاول (المراسل) وقدم نصا جديدا، ولكن ما فيه للمرة الثانية لم يزد كثيرا عما كتبه فى المرة الأولى، وكان فى مقدورنا صرف النظر عن الموضوع كله، ولكن المشكلة أننا استثمرنا أموالا فيه، ثم إننا سبق وكتبنا إلى السفارة المصرية هنا، وإلى السفارة البريطانية فى القاهرة نطلب منهما المساعدة على تسهيل مهمته، وبالفعل رتبوا له مقابلة «مبارك» وأفرادا من أسرته، وآخرين من حاشيته، وعدد من الذين عرفوه، وتعاملوا معه فى مراحل حياته المختلفة، ومعظم ذلك مسجل على أشرطة، كما أن هناك ــ إلى جانب النص المكتوب ــ مئات الصفحات من المذكرات والوثائق التى اعتمد عليها، لكن ذلك كله لم يساعد على مخطوطة كافية لكتاب مقروء (Readable)».

أضاف «إيدى بل»: «أنه حاول الاطلاع على المكتوب بنفسه، ولم يستطع أن يواصل القراءة فيه بعيدا».

أضاف: «وقد توصلنا إلى اقتراح نريد طرحه عليك، وهو أن نضع تحت تصرفك هذا النص، وكذلك تسجيلات مقابلات صاحبها ومذكراته، ثم تقوم أنت بأى جهد تراه لتجديد الكتاب، وفى هذه الحالة سوف نطلب منك إشارة رقيقة فى المقدمة إلى مَنْ قام بالعمل التحضيرى لمشروع الكتاب، وأظن أنك تقبل ذلك!».

ولم أكن فى حاجة إلى إطالة التفكير، وإنما قلت صراحة لـ«إيدى بل»: «إن لدى على الفور أسبابا كثيرة للاعتذار!!».

 ● أولها: أننى لم أكتب من قبل «قصة حياة» لأحد، ولم أفعل ذلك حتى مع «عبدالناصر»، وإنما كان كتابى عنه The Cairo Documents مركزا على صداقاته الدولية، وعلى عصر العمالقة الذى عاش فيه، ثم إننى لم أفعل ذلك مع «السادات»، وإنما كان كتابى عنه مركزا على خريف سنة 1981 ــ «خريف الغضب» Autumn of Fury، وتحديدا مشهد مأساة اغتياله.

أى أن كل كتبى باللغة العربية أو الإنجليزية كانت عن مراحل أو وقائع، وليست عن أشخاص.

● والسبب الثانى أن السير الشخصية (Biography) تحتاج إلى تجرد وحياد، وذلك قد يتوافر لمؤرخ، لكنه يصعب إنسانيا أن يتوافر لصحفى، وصحفى له موقف، وهذا ثانى أسبابى للاعتذار.

● هناك سبب ثالث نفسى أكثر منه عملى، وهو أن القبول بمثل هذه المهمة قد يقتضى منى طلب مقابلة «مبارك»، أو بعض المحيطين به، وهو ما لا أريده لأسباب تخصنى، بينها حرصى على الاحتفاظ بمسافة من السياسة المصرية الجارية!!

●●●

وللحق فإن «إيدى بل» لم يواصل إلحاحه وإنما أبدى تفهما، لكنه لم يستطع صرف النظر عن مشروع الكتاب بأسره، وقد سألنى فى محاولة أخيرة «إذا كان لدىَّ مانع من قراءة المواد الجاهزة، وإبداء رأى فى إمكانية استكمالها، إذا وجدت بعد قراءة النص أن لدىَّ ما أقترحه!!».

ولم أستشعر لدىَّ «مقاومة» لهذا الاقتراح، بل لعلى ببعض «خصائص» المهنة كنت مهيأ له، وطلب «إيدى» من سكرتيرته أن توضع قاعة الاجتماعات الملاصقة لمكتبه تحت تصرفى اليوم وغدا، بما يوفر لى فرصة القراءة الهادئة، وأن تجىء إلىَّ بالنص المكتوب، والصندوق الذى يحوى ما يتصل بها من الأوراق مثل محاضر وشرائط ومذكرات جمعها (المراسل) الذى كتب كتابه مرتين!!

وما بين الحادية عشرة صباحا إلى الرابعة بعد الظهر جلست فى قاعة الاجتماعات، منكبا على القراءة، وعلى الاستماع إلى مقاطع من التسجيلات.

وخرجت إلى مكتب «چوانا» أعيد إليها ما عندى، ولكنها قالت «إن رئيسها لايزال فى مكتبه، وقد يهمه أن يرانى ليسمع منى، ودخلت إليه، ولم يترك «إيدى» لى فرصة، بل سألنى إذا كنت وجدت حلا، وهززت رأسى نفيا، وقلت: «إن الرجل (أقصد المراسل) بذل جهدا خارقا، لكنه أعطى نفسه مهمة مستحيلة!!».

وسألنى «إيدى» عما أعنيه، وقلت: «إن الصورة هنا على الورق مماثلة تماما للصورة كما تظهر هناك على الأرض، وليس فى مقدور الرجل ــ إنصافا له ــ غير أن يعرض ما رأى، إلا إذا طلبت منه ما هو خارج طاقته!!

وسألنى «إيدى بل»: «هل يمكن أن يكون ما هو مكتوب هو كل ما هناك «على الأرض»؟!» ــ وقلت تأكيدا وإنصافا للرجل: «على الأرض ــ هو كل ما هناك!!».

●●●

وفيما بعد فكرت طويلا فى المسألة، وكان مؤدى ما توصلت إليه أن النص الذى قرأته ليس كل القصة، ولكنه ما يبدو للرائين منها، لأن بطل القصة (أى «مبارك») سواء ــ للأحسن أو للأسوأ ــ لم ينس أثرا حيث ذهب، ولم يترك بصمة حيث تصرف، ولم يوقع على ورقة إلا إذا كانت مرسوما بقانون سوف يُعلن للناس، ولم يسمح بتسجيل محضر لأهم اجتماعاته، بل أجراها جميعا على انفراد، وفى الغالب الأعم فإن تصرفاته الرئاسية كانت شفوية يصعب الحصول عليها، وتجميعها، ومضاهاتها، ودراستها!!

وهنا يصدق التعبير بأن من يتصورون أنهم يعرفون كل شىء عنه ــ بظاهر ما رأوا كله ــ هم فى الواقع لا يعرفون شيئا عنه!!

●●●

● وخلال سنوات طويلة سمعت ــ دون قصد ــ آراء كثيرين ممن عرفوه.

ــ بعض من عرفوا أسرته فى «كفر المصيلحة»، وليس فيهم من يعرف عنه شخصيا شيئا محددا، وقد سمعت كثيرا عنه (كما أسلفت) من شقيقه «سامى مبارك»، لكنه كله مما أرد نفسى عن استعمال شئ منه، فهو خصوصية أسرة، ثم إنه يحوى بعضا من عقدة قتل الأخ Fratricide وهو ما لا شأن لى فيه!!

ــ وبعض زملائه فى الكلية الحربية، وفى كلية الطيران، يجيبون إذا سُئلوا بأنه «لم يعط سره لأحد « على حد تعبير أحدهم، وهم يعرفون أنه يحب سماع الحكايات وروايتها، ويحب إطلاق النكات وتكرارها، لكنه وراء ذلك كتوم!!

ــ بعض هؤلاء أضافوا أنه رجل يثابر أكثر منه رجل يفكر، وهو مستعد بالنشاط العضلى يعوض ما يفوت عليه بالنشاط العقلى، وهو جاهز لذلك طول الوقت.

ــ وبعض هؤلاء يقولون إنه شديد الطاعة لرؤسائه، يكرس جهده دائما لإرضائهم مهما كانت المهام التى يطلبونها منه، وأثناء الدراسة فى كلية الطيران لم يخرج فى الإجازات، وإنما كان على استعداد باستمرار للبقاء فى الكلية نوبتجيا، بينما غيره ينتظر الإجازات ويتشوق لها.

ــ وبعض زملائه يروى أنه عندما تخرَّج والتحق بأحد المطارات كان يحاول التأثير بأن يلحق طابور الصباح كل يوم قفزا من النافذة إلى ساحة التدريب أمام الناس، ليُظهر سرعة حركته.

ــ وبعض زملائه يقول إنه نال الحظوة لدى من عمل معهم من قادة الطيران، ثم دار من حولهم عندما وجد منفذا إلى وزراء الدفاع، خصوصا الفريق «محمد فوزى»، والفريق «محمد أحمد صادق»، وهو يحقق نفاذه إذا اطمأن إلى أن قادته المُباشرين لا يعلمون، أو يعلمون ولا يقولون شيئا، لأن مرؤوسهم وطَّد صلته بالمستويات الأعلى!!

ــ وبعض زملائه فى قاعدة «بلبيس» يحكون كثيرا عن أنه كان معهم وهم يشترون اللحم من سوق «بلبيس» لبيته ولأسرة قرينته، لأن أسعارها أوفر، مع حرصه على أن يأخذ ورقة بالسعر ليستوفى حقه «بلطافة» (على حد تعبير القائل) دون أن يطلب بنفسه (وذلك لا عيب فيه).

ــ وزميل آخر يحكى كيف كان غرامه شديدا بالأرغفة الصغيرة المحشوة بـ«الفول المدمس» أو بـ«الطعمية»، وهو فى السيارة من القاعدة إلى البيت أيام الإجازات يأكل معظمها.

ــ وبعيدا عن زملائه القُدامى كلهم أو بعضهم، فإن من جاءوا فى حياة «مبارك» بعدهم لا يعرفون ما هو أكثر، ففى ذكريات أحد معاونيه الذين خالطوه عن قُرب فى بعض مراحل عمره «أن انبهاره الأكبر كان بالغِنى وبالأغنياء، والثروة والأثرياء، وعندما يعرف أن أحد زملائه ينتمى إلى أسرة غنية، فإن سؤاله باستمرار كان طلب ترجمة الأوصاف إلى أرقام بسؤال «يعنى يطلع عنده كام؟!».

ــ وهو شغوف بكل ما يستطيع أن يسمع من تفاصيل عن حياة الآخرين، وتلك من خَصاله، منذ كان ضابطا صغيرا حتى أصبح رئيسا.

ثم يضيف هذا المتحدث صيغة للتعامل مع «مبارك»: «يا هنا» ذلك الذى يحتاج «مبارك» إليه، و«يا ويل» من يحتاج هو إلى «مبارك»!!

ــ وهو رجل لا ينسى مهما طال الزمن إساءة ــ أو ما يعتبره إساءة من أحد، ولا يذكر مهما قصر الزمن فضلا ــ أو ما يعتبره فضلا من أحد!!

ــ وأخيرا هناك أحد الأدباء البارزين الذين اهتموا بحضور مؤتمراته وواظبوا عليها، وحاولوا تقييمه من وجهة نظر ثقافية: «أنه ــ ذلك الأديب ــ حضر عشرات المؤتمرات لـ«مبارك»، ولم يشعر على طول ما سمع أن «مبارك» قرأ كتابا، أو تذوَّق فنا، أو استشهد ببيت شعر، أو أشار إلى قول مأثور شعرا أو نثرا!!».

●●●

وربما كان أطرف ما سمعت فيما يمكن اعتباره «المأثورات» هو ما رواه لى «خالد عبدالناصر» بعد لقاء مع «مبارك» بعد عودة «خالد» من غيبة طويلة خارج مصر بسبب اتهامه فى قضية شباب مصر الأحرار، والتى قيل عنها إنها دبرت اعتداءات على رعايا إسرائيل عند مجيئهم إلى مصر بعد اتفاقية السلام.

وكان «مبارك» ــ للإنصاف أيضا ــ قد اتخذ فى هذه القضية موقفا كريما يُحسب له، وفى أثر ما شاع عن هذا الاتهام، فإنه ترك «خالد عبدالناصر» يسافر من مصر سنوات، وعندما عجز «خالد» عن تحمُّل الغيبة عاد ــ ورأى «مبارك» أن يلتقيه لقاء أب بابنه.

وكانت رواية «خالد عبدالناصر» عن نصيحة «مبارك» له ــ وقد رواها «خالد» عنه بجد، ولم أستطع أن آخذها كذلك.

كانت نصيحة «مبارك» قُرب نهاية اللقاء قوله:

ــ اسمع يا ابنى: تبسبس آه ــ تهلس آه ــ لكن تسيِّس لأ!!

وترجمة القول:

«تبسبس» (من بيزنس Business) ــ و«تهلس» (مفهومة دون ترجمة) ــ وتسيِّس (من السياسة)!!

وبالتالى فالحكمة المقصودة هى أن كل المجالات حلال، وأما مجال السياسة فهو الحرام شخصيا!!

●●●

كانت الصفة الأخرى التى ركز عليها هؤلاء الذين يعرفون «مبارك» عن قُرب هو أنه لا يحب أن يسمع كلمة طيبة عن غيره هو، وقد لمحت هذه الخاصية من خلال موقف رواه لى رئيس الوزراء اللبنانى السابق «رفيق الحريرى»، فقد تصادف أن «رفيق الحريرى» فى أول زيارة رسمية له إلى مصر بعد توليه منصب رئيس الوزراء، نزل فى فندق «شيراتون» الجزيرة، وهو شبه ملاصق لمكتبى، واتصل بى «رفيق الحريرى» فى الساعة الثامنة صباحا يقول لى إنه استيقظ مبكرا ويسأل إذا كان يستطيع أن يجىء إلىَّ الآن، ورحبت، وجاء «رفيق الحريرى»، وأول ما بدأ به قوله أنه التقى «مبارك» بالأمس، وأن «الرئيس» وضعه فى موقف شديد الحرج، فقد حضر وزير الخارجية المصرى وقتها ــ السيد «عمرو موسى» ــ الدقائق الأخيرة من اللقاء، وبعد انتهائه مشى «مبارك» من حيث كان يجلس مع ضيفه إلى باب قاعة الاجتماع ووراءهما السيد «عمرو موسى».

وقال «رفيق الحريرى»: «إننى أوقعت «عمرو موسى»، وأوقعت نفسى فى حرج شديد»، وراح يحكى أنه أراد مجاملة الرئيس المصرى بمدح وزير خارجيته، فقال له: «سيادة الرئيس اسمح لى أن أهنئك على نشاط وزير خارجيتك».

وتوقَّف «مبارك» فى مكانه، وقد بدا عدم ارتياحه قائلا لرفيق الحريرى، و«عمرو موسى» يسمع: «إيه.. وزير الخارجية لا يرسم سياسة .. رئيس الدولة يرسمها»!!

ولم يكتف بذلك بل التفت إلى «عمرو موسى» قائلا له:

«عمرو.. اشرح للأخ «رفيق» أن وزراء الخارجية لا يرسمون السياسة، ولكن ينفذونها فقط!».

وكان تعليق «رفيق الحريرى» أنه كان فى «نص هدومه» من شدة ما أحس بالحرج لنفسه ولوزير الخارجية المصرى، وقد ظن أنه يمدحه!!

●●●

ثم أتيح لى أن أسمع قصة مشابهة إلى حد ما، وهى تتعلق بى مباشرة، فقد حدث أن الرئيس «مبارك» قام بزيارة رسمية لليابان، واحتفلت به أكبر دور النشر هناك وهى «يوميورى شيمبون»، فأقامت له حفل غداء، دعت إليه جمعا من الشخصيات، وجلس الضيف المصرى بجانب رئيس مجلس إدارة مؤسسة «يوميورى» وهى عملاق فى عالم النشر، وصحيفتها اليومية «يوميورى شيمبون» توزع فى اليوم 6 ملايين نسخة ــ وقال المضيف لضيفه وهو يظن أنه يجامله:

«أنت تعرف يا سيادة الرئيس أن أحد كتابكم يشارك ثلاثة غيره من «كبار الكُتَّاب» فى مقال شهرى يُنشر فى «يوميورى شيمبون»، وهم يتناوبون عليه كل شهر، كل واحد منهم يكتبه أسبوعا، لأننا نقصد أن نجعل القارئ اليابانى متصلا بالعالم الخارجى، (وتفضل الرجل فذكر أسماء الكُتَّاب الأربعة من العالم وبينهم اسمى)!!

ورد الرئيس «مبارك» قائلا:

ــ «ولكن (تفضَّل هو الآخر بذكر اسمى) ليس معنا ــ هو ممن يعارضوننى».

ودُهش رئيس مجلس إدارة «يوميورى شيمبون»، وأغلق باب المناقشة فى الموضوع على الطريقة اليابانية، قائلا مشيرا لضيفه ــ إلى آنية من البللور وسط المائدة: هل تعجبك زهور الكريزانتم يا سيدى الرئيس ــ هذا موسمها فى اليابان!!

●●●

وكانت علاقة الرئيس «حسنى مبارك» مع السيدة «چيهان السادات» ظاهرة تستحق الدراسة، ومع أن هذه السيدة الذكية شديدة الحرص فى حديثها عن تلك العلاقة، فقد كانت بعض العبارات والروايات تفلت منها أحيانا.

وعلى مائدة العشاء فى بيت قرينة الوزير السابق الراحل («أمين شاكر») كان مقعدى على المائدة بجوار السيدة «چيهان السادات» وأمامنا الدكتور «مصطفى خليل»، والحديث هامس، والسيدة «چيهان» تبدى ضيقها من بعض ما تتعرض له، قائلة:

«إنه («مبارك») لم يغفر لها ما بلغه من ملاحظاتها على أدائه أثناء عمله نائبا للرئيس». والتفتت إلىَّ السيدة «چيهان» قائلة: «أنت كنت أنتقد «أنور» وسياساته، وسوف تعرف أنها «نار «أنور السادات» ولا جنة «حسنى مبارك»!!، ثم يغلب الضيق عندها على الحذر، وتقول:

«لا أعرف لماذا تمسَّك به «أنور» إلى النهاية» ــ ثم تواصل كلامها بما مؤداه «أنها أثارت مع زوجها أكثر من مرة موضوع صلاحية «حسنى مبارك» لأن يكون نائبا للرئيس، ولكن أنور السادات» كان يقاطعها كل مرة قائلا لها على حد روايتها (چى.. (كذلك كان نداؤه عليها باسمها تدليلا) هل تريدين أن تكون علاقتك سيئة برئيس الدولة القادم؟!».

وتوقفت طويلا أمام هذه العبارة الأخيرة، لأن القطع فى الأمر بهذه الصيغة له ــ أغلب الظن ــ سبب!!

●●●

وكان الدكتور «مصطفى خليل» جالسا أمامنا يتابع، وقد التقط بدوره خيط الحديث من السيدة «چيهان» ــ وراح يحكى أنه لا يذكر اجتماعا حضره مع «حسنى مبارك» (عندما كان نائبا لرئيس الحزب الوطنى، وعضوا فى لجنته العُليا) ــ ثم جرى بحث أمر من الأمور على نحو جدى من البداية إلى النهاية، صحيح أنه فى كل مرة كان هناك جدول أعمال، لكن ما كان يحدث بالفعل هو أن الاجتماعات ما تلبث أن تزدحم بالحكايات والروايات، ثم ينتهى الاجتماع.

ويستطرد «مصطفى خليل»:

«وأفتح الجرائد صباح اليوم التالى، وأجد تصريحا «طويلا عريضا» لـ «صفوت الشريف»، يستفيض ويستطرد فى الكلام عن موضوعات يُفترض أننا بحثناها ودرسناها، وقررنا فى شأنها أثناء اجتماعنا، بينما نحن فى الحقيقة لم نتطرق لها على الإطلاق.

ويضيف «مصطفى خليل»: «أنه لم يقابل «مبارك» سواء بصفته نائب رئيس الحزب الوطنى، أو بوصفه مسئولا فى النظام، إلا وقد سبق اللقاء تحذير من الحاشية بأن «سيادة الرئيس لديه من المشاكل ما فيه الكفاية، فإذا كان لديك ما يمكن أن يضايقه فـ «حاسب على الراجل»، وإذا كان عندك ما يشرح صدره، فقل ما تشاء!!».

●●●

لكن ذلك كله لا يكفى لتفسير «مبارك»، ولا لتقييم شخصيته، فهذه الأوصاف بكل ما تقدمه من دلالات وإيماءات لا تكفى، فهذا رجل مشى فى عمله الوظيفى من أصغر رتبة إلى أعلى رتبة، ومشى على خط متواصل دون عقبات أو عثرات تعترض طريقه أو تعطِّله.

ــ ثم هو رجل تساقط خصومه ومنافسوه أمامه واحدا بعد الآخر، وبقى هو بعد الجميع، وتلك استمرارية تحتاج إلى تفسير أكثر اتساعا وعمقا من كل ما هو شائع وذائع من الحكايات والروايات.

ــ ثم إن هذا رجل تقدم من الصفوف فجأة إلى قمة السلطة، وقد يقبله الناس لظروف، لكن «الظروف» ــ فى العادة ــ لا تطول إلى ثلاثين سنة!!

ــ بقيت ظاهرة لا يمكن إغفالها، وهو أنه رغم خلعه عن السلطة ــ فإن «مبارك» لم يترك دائرة الضوء، بل ظل قضية مُثارة، جارية على الألسن فى كل حديث عام، واردة فى حساب التطورات المأساوية التى عاشتها وتعيشها مصر، ولو من باب مسئوليته عنها دون حساب حقيقى حتى الآن!!

وتلك كلها ليست أمورا سهلة، تؤخذ بظواهرها.

وإنما لابد أن يكون وراءها شىء لم تلمحه الأوصاف، ولم تحسبه التقديرات.

والمشكلة أن هذا «الشىء» ــ على فرض وجوده ــ لا تظهر له علامات ولا بشارات!!

فى الحلقة القادمة:

الأمريكيون بين أول من سحبوا استثماراتهم على «مبارك» .. خطاب شخصى للرئيس مبارك كان من أصعب ما كتبت على كثرة ما كتبت

محمد حسنين هيكل (الحلقة الثالثة عشرة) : مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان.. مسألة (أشرف مروان)!!

مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان (الحلقة الثالثة عشرة) .. مسألة (أشرف مروان)!!


أشرف مروان مع السادات ومبارك
محمد حسنين هيكل كانت العلاقة بين الرئيس «حسنى مبارك» والدكتور «أشرف مروان» ــ وثيقة فيما بدا لى، وكان ما لفت نظرى مبكرا إلى أن هذه العلاقة بين الاثنين أبعد من حدودها الطبيعية ــ مشهد فى مكتبى فى شهر مارس سنة 1974، وكان «حسنى مبارك» قائدا للطيران، و«أشرف مروان» مديرا لمكتب الرئيس للمعلومات، وكان «أشرف مروان» يزورنى مثل آخرين غيره حاولوا ــ تصفية الأجواء، وإعادة العلاقات بين الرئيس «السادات» وبينى، (وكان الخلاف بيننا قد احتدم وابتعدت عن «الأهرام» بعد أن عارضت سياساته «بصراحة» فى مجموعة مقالات نُشرت فى «الأهرام» ثم نشرتها فيما بعد فى كتاب مستقل بعنوان «عند مفترق الطرق».

وأثناء وجوده فى مكتبى ــ ذلك اليوم من مارس سنة 1974 ــ قال لى «أشرف مروان» ضمن ما قال «إنه سوف يذهب ــ غدا ــ إلى ليبيا لمقابلة «القذافى»، وشرح لى داعيه للرحلة، ولم أتحمس لما سمعت، فقد كان ملخصه أن الرئيس «السادات» يرغب أن «يقوم «الأخ العقيد» بشراء طائرة للرئاسة المصرية، لأنه يعتقد أن الوقت قد حان (بعد حرب أكتوبر) لتكون للرئاسة المصرية طائرة تليق بها كما هو الحال مع آخرين من رؤساء الدول العربية» (بالذات ممالك ومشيخات النفط).

وكان اعتماد «أشرف» فى هذه المهمة على علاقة نشأت بينه وبين السيد «عبدالسلام جلود» (رئيس وزراء ليبيا)، وكذلك رأى أن يكون «جلود» مدخله إلى إقناع «القذافى» بتمويل شراء طائرة رئاسية مصرية.

●●●

وفى مكتبى ــ ذلك الوقت من سنة 1974 ــ و«أشرف مروان» يحكى عن مهمته فى ليبيا وجدته ينهض فجأة كمن تذكَّر أمرا، ويتصل بقائد الطيران الفريق «حسنى مبارك»، ويخاطبه باسمه الأول: «حسنى».. (هكذا بلا ألقاب) جهز طائرة من عندك للسفر غدا إلى «طرابلس»، وأريدك بنفسك على الطائرة».

ثم عاد إلى استئناف حديثه معى.

وبدت لى تلك الألفة بين الرجلين لافتة!!

●●●

(والذى حدث فى شأن موضوع الطائرة الرئاسية أن علاقة «القذافى» بالرئيس «السادات» تدهورت فجأة ــ كالعادة ــ لأسباب يطول شرحها، ورفض «القذافى» أن تقوم ليبيا بشراء طائرة رئاسية لـ«السادات»، وعرف السيد «كمال أدهم» (مدير المخابرات السعودية) من «أشرف مروان» بالرفض الليبى، وقرر الملك «فيصل» (و«كمال أدهم» هو شقيق زوجته الملكة «عفت») ــ أن يكون هو صاحب هدية الطائرة الرئاسية، وقد كان.



عبد السلام جلود
●●●

وعندما وصل الرئيس «مبارك» إلى رئاسة الجمهورية، وبعد انقضاء مدة الرئاسة الأولى والثانية، كانت الطائرة الرئاسية (هدية السعودية) قد تخلَّفت عما استجد على الطائرات الملكية والرئاسية من مظاهر الأبهة والترف، خصوصا بعد ذلك الفيض المنهمر من ثروات النفط!! ــ وجرت مفاتحة «القذافى» مرة أخرى، وكانت العلاقات قد تحسنت، والظن أن هذا التحسن فى العلاقات يكفى لإقناع «القذافى» أن تشترى «ليبيا» طائرة جديدة للرئاسة المصرية، وكذلك كان!!

وحدث أن «الديكور» الداخلى للطائرة الجديدة وهو من رسم المصمم الفرنسى الشهير «بيير كاردان»، لم تجئ ألوانه متوافقة مع ذوق من يعنيهم الأمر فى القاهرة، وبالفعل تم تغيير الديكور الداخلى للطائرة بألوان مختلفة تَلقى القبول!!).

●●●

وفى تلك السنوات ــ على طول السبعينيات ــ توثقت العلاقة بين الرجلين ــ «حسنى مبارك» و«أشرف مروان» ــ وزادت قربا عندما أصبح «أشرف مروان» ضمن المسئولين عن مشتريات السلاح بعد اعتماد سياسة تنويع مصادره، ويلاحظ حتى من قبل ذلك أن الرجلين معا كانا قريبين بحكم الاختصاص من صفقة «الميراچ» الليبية مع فرنسا (1970 ــ 1974)، فقد كان «مبارك» باعتباره قائدا للطيران هو الرجل المسئول عما يجىء لمصر من تلك الصفقة، ثم إن عقد الصفقة قام به أساسا ضباط من سلاحه، قصدوا إلى باريس بجوازات سفر ليبية، (لكن الفرنسيين كانوا يعرفون الحقيقة)، وفى نفس الوقت فإن «أشرف مروان» وبمسئوليته فى ذلك الوقت عن العلاقات مع ليبيا ــ لم يكن بعيدا عن التفاصيل.

●●●

ويستوقف النظر فى تلك الفترة أن دخول «أشرف مروان» فى قضايا التسليح، كان ظاهرا على مستوى القمة، فقد حضر اجتماعا رسميا للرئيس «السادات» مع وزير الخارجية الأمريكية «هنرى كيسنجر»، وكان الاجتماع فى بيت الرئيس «السادات» فى الجيزة يوم 10 أكتوبر 1974.

وتروى وثيقة رسمية من الوثائق السرية لوزارة الخارجية عنوانها «مذكرة عن مناقشة» ــ أن الاجتماع حضره من الجانب المصرى مع الرئيس «السادات» كل من «إسماعيل فهمى» (وزير الخارجية) ــ و«محمود عبدالغفار» (وكيل الوزارة) ــ والدكتور «أشرف مروان» (الذى وصفته الوثيقة الأمريكية بـ«مساعد الرئيس للاتصالات الخارجية»).

ومن الجانب الأمريكى الدكتور «هنرى كيسنجر»، و«چوزيف سيسكو»، والسفير «هيرمان إيلتس» (سفير الولايات المتحدة فى القاهرة)، و«بيتر رودمان» (من هيئة الأمن القومى الأمريكى).

وتحت عنوان فرعى يقول: «الأسلحة السعودية إلى مصر» يتضح (من المناقشة) أن السعودية عقدت صفقة أسلحة أمريكية لمصر بقيمة 70 مليون دولار، وأن هناك وفدا سعوديا يتعاون حول الصفقة موجود فى واشنطن.

وفى الصفحة الثالثة من محضر المناقشة، تقول المذكرة:

«حوار جانبى يدور باللغة العربية بين الرئيس «السادات» و«أشرف مروان».

ثم تستأنف المناقشة مسارها على النحو التالى:

«السادات»: نحن نتحدث مع السعوديين عن صفقة السلاح (التى يمولونها)، وأنت قلت لى إننا سوف نتحدث مع الملك فى هذا الموضوع، وأعتقد أن الصفقة يمكن توقيعها قبل شهر ديسمبر، ونحن على استعداد للتوقيع أيضا فى حدود سبعة ملايين دولار هذه السنة.

«كيسنجر»: إننا نجد صعوبة كبيرة مع السعوديين، ولا نستطيع أن ندفعهم إلى عمل شىء، وقد أزعجوا سفيرنا البروتستانتى المتدين، لأن كل ما يطلبونه هو «البنات» و«المال» Girls and money، ولم يسألوا أنفسهم بعد ماذا عليهم هم أن يفعلوا؟!، وهم يغطون على كل شىء، وسوف أثير هذا الموضوع مع الملك.

وهنا تدخَّل الدكتور «أشرف مروان» فى المناقشة قائلا:

«مروان»: إن الملك سوف يحيل الموضوع إلى «سلطان» (يقصد الأمير «سلطان» وزير الدفاع)، و«سلطان» ليس سعيدا بمسألة الذخيرة التى يُقال لهم الآن إن تسليمها سوف يكون بعد أربعة عشر شهرا.

«كيسنجر» (موجها الحديث إلى «چوزيف سيسكو»): «چو».. اهتم بهذا  الموضوع.

«مروان»: ألا يمكن قصر موضوع السلاح على شركات، دون تدخل للحكومة، (أى يجرى التفاوض بين السعوديين وبين الشركات الأمريكية مباشرة بدون تدخُّل رسمى.


«سيسكو»: تلك مسألة صعبة لأن الأمر يحتاج إلى تصريح من الحكومة الأمريكية ببيع السلاح.

«مروان»: لكن نحن لا نريد أن يكون لوزارة الخارجية دور فى موضوعات السلاح.

«كيسنجر»: عليكم أن تعرفوا أن وزارة الدفاع يتعين عليها فى مسألة السلاح أن تتعامل على أساس أسعار مقررة ثابتة!!



الأمير سلطان بن عبد العزيز

●●●

وبعد اختيار «مبارك» لمنصب نائب الرئيس سنة 1975، كانت أول مهمة كُلِّف بها أن يقوم بزيارة رسمية لـ «باريس» فى يونية من تلك السنة 1975، (أى بعد شهر واحد من توليه منصبه)، والهدف منها الاتفاق على شراء وتصنيع صواريخ فرنسية فى مصر، وكان «أشرف مروان» مصاحبا لـ «مبارك» فى تلك الزيارة (ولم يكن قد تولَّى بعد مسئولية هيئة التصنيع الحربى، ولكن دوره فى قضايا التسليح كان يزداد ظهورا).

(والتفاصيل حول هذه الصفقة منشورة فى المجلة المعتمدة لشئون الطيران فى العالم Aviation Weekly عدد 14 يوليو 1975).

●●●

وكرَّت السنين إلى أوائل الألفية الجديدة!!

ومع حلول سنة 2000 و«أشرف مروان» مقيم فى لندن، بدأت الأخبار تتسرب من إسرائيل تلمِّح إلى أنه كان «عميل إسرائيل» الذى أخطر «الموساد» بتوقيت نشوب الحرب فى أكتوبر سنة 1973، وبين المعلومات أن الهجوم سوف يكون على الجبهتين ــ المصرية والسورية فى نفس الوقت، وظلت التسريبات من إسرائيل تظهر وتختفى، لكنها ليست غائبة عن الاهتمام العام لعدة سنوات.



حافظ الأسد الرئيس السوري الراحل

ثم حدث فى ذكرى 6 أكتوبر (سنة 2005)، وهى مناسبة يقوم فيها رئيس الدولة عادة ــ «السادات» أو «مبارك» بعده ــ بزيارة ضريح «جمال عبدالناصر»، وفوجئ الرئيس «مبارك» على ما يبدو بأن «أشرف مروان» يتصدر مستقبليه على باب الضريح، وعند خروجه كان «أشرف مروان» الأقرب إليه بين مودعيه، ولاحظ بعض المحيطين بهما أن الرجلين تبادلا همسات لم تستغرق غير ثوان، وانصرف «مبارك»، لكن بعض من كانوا بالقُرب منهما فى البهو من «الضريح» إلى سيارة «مبارك» ــ التقطوا ــ أو كذلك تصوَّروا ــ من الهمس ما سمح لهم أن يفهموا أن «مبارك» يلوم «أشرف» أنه تعمَّد اليوم أن يظهر ملتصقا به طول وقت الزيارة، ثم إن «مبارك» ينصحه بالسفر فورا، لأن «الناس كلامها كثير»!!

وبالفعل فإن «أشرف مروان» عاد إلى «لندن» مع أول طائرة صباح اليوم التالى.



حرب أكتوبر 1973

●●●

كانت التسريبات التى خرجت من لجنة الأمن والدفاع فى «الكنيست»، ومن مجالس عسكرية سرية خاصة تشكلت للتحقيق فيها ــ شديدة الحساسية والخطورة، وهى باختصار أثر من آثار الصدمة التى واجهتها إسرائيل فى الأيام العشرة الأولى من حرب أكتوبر 1973 ــ فقد حدث وقتها أن إسرائيل شكَّلت لجنة تحقيق خاصة رأسها القاضى «أجرانات» لكى تبحث أسباب ما وقع وتحدد المسئولية عنه، وكانت النقطة المركزية فى التحقيق هى: هل فوجئت إسرائيل أو لم تفاجأ؟! ــ وهل عرفت أو أنها لم تعرف؟! ــ وإذا كانت قد عرفت من مصدر سرى، وقد عرفت فعلا، فلماذا تأخرت فى الاستعداد ساعات حاسمة؟! ــ ولماذا؟! ــ ومن يتحمل الوِزْر؟!!

وكانت لجنة التحقيق الخاصة (وهى مُشكَّلة بقرار من رئيسة الوزراء «جولدا مائير»، وبطلب وضغط من الرأى العام) ــ قد توصلت إلى نتائج أعلنت ملخصا مقتضبا جرى إعلانه مع إجراءات عقابية طالت عددا من المسئولين، وبين ما اتخذ من إجراءات، توجيه لوم إلى وزير الدفاع «موشى دايان»، وإزاحة رئيس أركان الجيش الإسرائيلى الچنرال «داڤيد بن أليعازار» من منصبه، وإحالة الچنرال «إيلى زائيرا» (مدير المخابرات العسكرية) إلى التقاعد.

●●●

ومع أن تحقيقات القضية وتفاصيلها بقيت فى حيز الأسرار المكتومة، إلا أنه ــ وكالعادة ــ فى إسرائيل وفى بلدان كثيرة غيرها ــ فإن لجنة «أجرانات» لم تستطع تكميم كل الأفواه، ولا حبس كل الأوراق، ولا وقف كل التداعيات، والسبب الرئيسى أن الخلاف ظل محتدما بين اثنين من الچنرالات الإسرائيليين الكبار أثناء حرب أكتوبر 1973.

ــ الچنرال «زڤى زامير» (رئيس الموساد ــ أى المخابرات العامة الإسرائيلية).

ــ والچنرال «إيلى زائيرا» (رئيس آمان ــ أى المخابرات العسكرية الإسرائيلية).

ومؤدى الخلاف بين الاثنين أن رئيس الموساد «زائير» يصر على أنه أبلغ عن خطط ومواقيت وصلت إليه من مصدر مصرى موثوق عن هجوم مصرى ــ سورى، لكن رئيس المخابرات العسكرية ــ الچنرال «زائيرا» ــ  فى المقابل يصر على التشكيك فى مصدر المعلومات الذى أبلغ الموساد (لم ينف وجود المصدر المصرى ولم ينف دوره فى الإبلاغ مسبقا، ولكنه قدَّر أن يكون عميلا مدسوسا على إسرائيل، أو عميلا مزدوجا، وشاهده الرئيسى أن ذلك المصدر المصرى أبلغ إسرائيل بالساعة الخطأ فى موعد الهجوم، أى أن إبلاغه عن موعد الهجوم فى السادسة مساءً، بينما وقع الهجوم فعلا فى الثانية بعد ظهر السبت 6 أكتوبر).

وكذلك تعطَّل قرار إعلان التعبئة العامة فى إسرائيل، ووقع تقصير فى الاستعداد، وكانت كلمة «التقصير» بالتحديد هى عنوان تقرير لجنة «أجرانات».

وتحول الخلاف بين الرجلين إلى خلاف بين الجهازين: «الموساد» و»آمان»، وشكَّل ذلك نوعا من الشرخ داخل أجهزة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم يعد فى الإمكان تجاهله، وكذلك جاء تشكيل اللجنة الأمنية العليا بين الرجلين: «زامير» و«زائيرا»، وتوفق بين الجهازين: «الموساد» و«آمان» برئاسة النائب العام «مناحم مازوز»، ومعه عدد من قيادات الجيش ومن خبراء الأمن، وإطلعت اللجنة على جميع الوثائق، بما فيها محاضر تحقيقات لجنة «أجرانات»، واستمعت إلى كل الشهادات، وبالطبع فإن الاسم الحقيقى للعميل المصرى الذى حصل «الموساد» بواسطته على سر الحرب وموعدها جرى تداوله.

ثم توصلت اللجنة إلى قرارات لم تُعلن، لكنه ــ كالعادة مرة أخرى ــ بدأت عمليات التسريب، وضمن ما تسرب أوصاف لهذا العميل المصرى ــ توصل بها أحد الباحثين إلى اسمه، وكذلك ظهر اسم الدكتور «أشرف مروان» بلا لبس أو غموض، وأخذت القضية منحىً جديدا لأن إذاعة الاسم أحدثت رجة وضجة داخل إسرائيل ــ أولا!!

وكانت الضجة تتركز على المسئولية عن كشف السر، لأن فيها إضرار «بصديق لإسرائيل»، وفيها عملية «فضح» سوف تجعل آخرين يترددون، طالما أن ما يفعلونه فى السر يمكن أن يظهر فى العلن!! ــ وكان مدير الموساد الچنرال «زامير» فى حالة هستيرية، يخشى أن كشف المستور سوف يلحق ضررا كبيرا بقدرة إسرائيل على تجنيد عملاء لهم قيمة!!

وفى الوقت نفسه، فإن الچنرال «زائيرا» كان يرد باعتقاده أن العميل الذى أبلغ إسرائيل كان عميلا مزدوجا ــ لمصر أيضا، ولذلك فقد كان فى حِلْ من الإشارة إلى اسمه!!

ووصل الصراع فى حدته وعنفه إلى درجة أصبح معها مسألة حياة أو موت!!

ومنذ اللحظة الأولى فإن القضية ــ لأسباب عديدة ــ  أثارت اهتمامى!

●●●

ووقتها ــ ومنذ بدأت التحقيقات ــ كان الدكتور «عزمى بشارة» السياسى الفلسطينى المعروف، وهو من أقطاب «عرب الداخل»، لا يزال عضوا فى الكنيست، وأرسلت إليه عن طريق صديق فلسطينى مشترك أسأله إذا كان فى مقدوره أن يبعث إليَّ بما يمكن أن يتوصل إليه من ملفات «الكنيست» فيما يخص الموضوع.

وتفضَّل الرجل واستجاب.

ومع أن معظم ما كان يدور حول القضية، كان يجرى فى لجنة الأمن والدفاع فى «الكنيست» (وهذه لا يشترك فيها الأعضاء العرب) ــ إلا أن وجود الدكتور «عزمى» عضوا فى المجلس، كان يعطيه بلاشك إمكانية وصول تتعدى إمكانيات غيره من «عرب الداخل».

●●●

والحقيقة أن الدكتور «عزمى بشارة» وصديقين غيره من عرب الداخل (لا يجوز البوح باسمهما، لأنهما ما زالا فى الداخل) ــ استجابا إلى ما طلبت وأكثر، وأضاف الجميع لما أرسلوا من الأوراق الأصلية، وهى باللغة العبرية، ترجمات لها بالعربية أو بالإنجليزية.

ولم أكن بأمانة مستعدا لتصديق ما قرأت.

لكنى ــ وبأمانة أيضا ــ لم أكن قادرا على تجاهله!!

فالقضية لم تعد تلميحات أو تسريبات تظهر فى صحف، أو تنشر فى كتب، وإنما القضية أكبر، وإلحاح الوقائع والتفاصيل فيها لا يمكن مقابلته بالصمت فى مصر، وما دار حولها فى إسرائيل ليس تكهنات صحف ولا شائعات تتناقلها الروايات، وإنما فى القضية اثنان من أشهر چنرالات إسرائيل، وهناك قضاة من المحكمة العليا، وهناك نائب عام إسرائيلى، وهناك جلسات سرية للجنة الأمن والدفاع فى «الكنيست»، وهناك ملفات ووثائق، وبعض ما وصل إلىَ من ذلك كله أثار لدىَّ كثيرا جدا من القلق!!

فلقد لمحت من بين الوثائق والملفات ــ مثلا ــ صور لمحاضر اجتماعات بين «أنور السادات» ونظيره السوڤييتى «ليونيد بريچنيڤ» أثناء زيارته السرية لموسكو فى مارس سنة 1971، ومع أنى لم أحضر تلك المحادثات، فإن الرئيس «السادات» بعث إليَّ كالعادة وقتها بالمحاضر الرسمية لها كما كتبها السفير «مراد غالب».

والآن أمامى ضمن الملفات السرية من داخل «الكنيست» صورة هذا المحضر ــ نسخة من الأصل ــ ثم إن هناك صورا!! لعشرات الوثائق، وكلها صور من الأصل وليس مجرد معلومات تستند إليه (كأن رئاسة المخابرات الإسرائيلية تقرأ «على راحتها» أوراق الرئاسة المصرية)!!

ولم أكن فى بعض اللحظات قادرا على تصديق ما أراه أمامى.

●●●

وفى تلك الفترة سألنى أحد أصدقاء «مبارك» المقربين، (وهو بالمصادفة قريب منى بالسكن) ــ عن رأيى فى هذه القصة والضجة المُثارة حولها، وقلت له رأيى وأضفت أنه يستطيع إذا وجد رأيى مناسبا أن ينقله إلى الرئيس، وهو فى حِلْ من ذكر اسمى.

وكان ملخص رأيى «أن كرامة البلد وسمعة «أشرف مروان» نفسه تتطلب تحقيقا رسميا مصريا فى الموضوع، بواسطة هيئة رفيعة المستوى، تضم عناصر قضائية ــ وبرلمانية ــ على أن تمثل فيها المخابرات العسكرية والمخابرات العامة فى مصر)، وظنى أنه بدون ذلك لا تستقيم الأمور».

وقلت لصديق «مبارك» أيضا أن الموضوع شائك وهو كذلك معقد، لأن من أبلغ إسرائيل ــ بصرف النظر عن شخصيته ــ بموعد الهجوم على أنه الساعة السادسة مساءً لم يقصد تضليلها، لأن هذا الموعد كان هو ساعة الصفر المقررة فعلا فى الخطة حتى يوم الثلاثاء 2 أكتوبر، ثم وقع خلاف بين الفريق «أحمد إسماعيل» (وزير الدفاع المصرى)، وبين اللواء «يوسف شكور» (قائد الجيش السورى).

وموضوع الخلاف أن القيادة المصرية كانت تفضل بدء العمليات فى الساعة السادسة مساء مع آخر ضوء، لكى تستفيد من مجىء الليل يحمى عمليات المهندسين فى بناء الجسور.

وأما القيادة السورية فقد كانت تفضل الساعة السادسة صباحا مع أول ضوء، لكى تستعين بأشعة الشمس فى مواجهة الدبابات الإسرائيلية على هضبة «الجولان».

وقد استحكم الخلاف بين القيادتين المصرية والسورية، وسافر الفريق «أحمد إسماعيل» إلى «دمشق» سرا صباح يوم الثلاثاء 2 أكتوبر لتسوية مباشرة مع القيادة السورية، ولم يتوصل الطرفان إلى حل، وتدخَّل الرئيس «حافظ الأسد» وتوصَّل مع القائدين «أحمد إسماعيل» و«يوسف شكور» إلى حل وسط، وهو اختيار الساعة الثانية بعد الظهر موعدا للهجوم.

والحل الوسط على هذا النحو يعطى القيادة المصرية ست ساعات عمل قبل الظلام الذى تريده لحماية بناء الجسور، كما أنه يعطى القيادة السورية ست ساعات من ضوء الشمس تنجز فيه اندفاعها الرئيسى على الهضبة، والشمس وراءها وفى مواجهة مدرعات الجيش الإسرائيلى.

والمسألة الحساسة أن الدكتور «أشرف مروان» سافر من مصر إلى «ليبيا» عن طريق أوروبا يوم 2 أكتوبر، لكى يخطر «القذافى» بأن المعركة حلت، وساعة الصفر المقررة لها والموعد المعتمد لبدء العمليات هو السادسة مساء، أى أن الدكتور «أشرف مروان» لم يكن فى مصر عندما تغيرت ساعة الصفر من السادسة مساءً إلى الثانية بعد الظهر.

وهذه مسألة قد تثير التباسات لابد من جلائها، وإلا وقعت الإساءة إلى «أشرف مروان»، وهذا ظلم له ــ إلا إذا ثبت شىء آخر!!

●●●

وبعد أن لقى «أشرف مروان» ذلك المصير المأساوى الذى انتهت به حياته بالسقوط من شرفة شقته فى الدور الرابع على الأرض فى ساحة «كارلتون تيراس» ــ وبرغم أية أحزان شخصية وإنسانية ــ فقد كان يقينى أن المشكلة لا يمكن ــ ولا يصح ــ أن تنتهى إلا بتحقيق شامل، لكن الذى حدث أن الرئيس «مبارك» فى جو مزدحم بالتقارير الواردة من إسرائيل وبالأخبار والشائعات ــ أصدر من جانبه إعلانا قرر فيه براءة «أشرف مروان»!!

وفى لقاء آخر مع «صديق مبارك»، قلت له «إننى شخصيا شديد الانزعاج من اتهام «أشرف مروان»، وشديد الحزن للمأساة التى انتهت بها حياته، لكن المسألة برمتها، ولكرامة البلد، ولسمعة الرجل، ولطمأنينة أسرته، تقتضى تصرفا مختلفا، أوله تحقيق كامل فى القضية»، وربما تماديت حين قلت له «إن الرئيس «مبارك» قلد بابوات روما على عهد البابا «أوربان الثانى» وأصدر صك براءة، ومع تقديرى لشهادة الرئيس ولشهادات كل بابوات الڤاتيكان ــ فإن رئيس مصر لا يملك هذا الحق، وسوف تُعتبر القضية معلقة فى السياسة وفى التاريخ، ولا يضع نهاية لها إلا تحقيق شامل ودقيق!!».

وكان حرصى شديدا على براءة «أشرف مروان»، مع تأكيدى بأن نتائج التحقيق وحدها هى صك البراءة الضرورى الذى يزيحها إلى النسيان!!

وقلت أيضا: «إن «مبارك» يتصرف بما لا يملك عندما يستعمل سلطته للفصل فى القضية»، وإذا كان فى استطاعته من موقع الرئاسة أن يغلق الباب هذه اللحظة بقوة السلطة، فإن التاريخ له أبواب كثيرة إلى قرار الحقيقة أيا كان موقعه، مع الرجل أو عليه، رغم أننى واحد من الذين يدعون الله لأكثر من سبب أن تكون الحقيقة لصالح «أشرف مروان»!!

فالرجل إنسان ودود إلى آخر الحدود، ثم هو إدارى تنفيذى أثبت كفاءة مشهودة أثناء إدارته لمكتب الرئيس «السادات» للمعلومات، ثم هو رجل أؤتمن على خزانة أسرار مكتظة بما فيها، ولقد قام فى حياته بأدوار حساسة متعددة: مديرا لمكتب الرئيس للمعلومات، ورئيسا للهيئة العربية للتصنيع العسكرى، وهو أيضا رجل يملك شبكة علاقات إنسانية وسياسية وعسكرية ومالية شديدة الاتساع، وكل ذلك يفرض أن تكون السجلات واضحة احتراما للمعنى العام، وإنصافا للمعنى الإنسانى الخاص.

●●●

تظل فى مسألة «أشرف مروان» واقعة أكتبها بحق التاريخ وحده، وهى واقعة جرت فى لندن فى شهر سبتمبر 2006.

فى الصباح الباكر من أحد الأيام فى ذلك الشهر، وكنت فى العاصمة البريطانية، اتصل بى الصديق والمفكر العربى الدكتور «كلوفيس مقصود» يقول لى «إن السفير اللبنانى فى لندن «جهاد مرتضى» دعاه اليوم على الغداء، واللقاء مع عدد من الدبلوماسيين العرب، وقد عرف السفير «مرتضى» منه (الدكتور «كلوفيس مقصود») أننى فى لندن، وهو يرجو أن يدعونى إلى الغداء إذا لم يكن لديَّ ارتباط آخر، وأضاف «كلوفيس مقصود» أنه يتمنى لو قبلت دعوة السفير اللبنانى ــ ويومها كان لدىََّ على الغداء موعدا أستطيع أن أتصرف فيه، وهكذا نزلت على ما طلب «كلوفيس»، واتصل بى بعد دقائق السفير «جهاد مرتضى»، يوجِّه لى الدعوة رسميا.

وعندما دخلت إلى بيت السفير اللبنانى فى حدائق «كينسجتون»، كان السفير «جهاد مرتضى» ومعه ضيفه الدكتور «كلوفيس مقصود» فى انتظارى، ودخلنا مباشرة إلى قاعة الطعام، وهناك وجدت ستة من السفراء العرب بينهم السفير المصرى فى لندن وهو السفير «جهاد ماضى»، ووسط جمع السفراء العرب وجدت «أشرف مروان» واقفا وفاتحا يديه مرحبا، وقلت همسا: «أشرف».. لدينا كلام كثير!!».

وكان الغداء «دبلوماسيا عربيا» فى كل تفاصيله، واستغرق أكثر قليلا من ساعة، ثم استأذنت من الجميع: «بأننى سأترك لهم الدكتور «كلوفيس مقصود» يتحدث معهم فيما يريدون، وقام معى السفير اللبنانى يودعنى إلى باب سفارته، ولمحت «أشرف مروان» يسير وراءنا، وعلى باب السفارة اللبنانية فى لندن وقفنا، وقد جاءت سيارتى ولحقتها سيارته، وسألنى «أشرف» إذا كان يستطيع أن يجىء معى، وقلت له بصراحة:

«أنه لا أنا ولا هو يستطيع أن يتصرف كما لو أنه لم يحدث شىء، فقد حدث شىء، وشىء كبير لا أستطيع أن أتجاهله معك، ولا تستطيع أن تتجاهله معى».

وقال مبتسما: أعرف.

وسألته والسفير اللبنانى «جهاد مرتضى» لا يزال واقفا معنا يتابع حوارنا:

- إلى أين نذهب؟! ــ بصراحة فأنا لا أريد اليوم أن أذهب إلى بيتك، ولا إلى فندق «الكلاريدچ» ــ وإذن..
وقاطعنى يقترح أن نذهب إلى فندق «الدورشستر».

وطلبت من سائق سيارتى أن يذهب إلى فندق «الدورشستر».

ولدقيقة ساد فى السيارة صمت، قطعه بأن قال:

«لم نلتق منذ سنة ونصف، مرات عرفت أنك فى لندن وترددت فى الاتصال بك، وحين غالبت ترددى مرة سألت وإذا بك سافرت، لكن هذه المرة عندما عرفت من «جهاد» أنك قبلت دعوته على الغداء، طلبت منه أن يدعونى!!».

وقلت: «أنت لم تأت إلى القاهرة طوال هذه السنة والنصف، ولا أعرف إذا كنت ممنوعا من المجىء لها بطلب من الرئيس «مبارك» الذى نصحك بالسفر منها أثناء لقاءك معه فى ضريح الرئيس «عبدالناصر»!!

وفوجئت بردة فعل «أشرف مروان» وبانفعاله فى الرد، فقد قال:

ــ هم لم يطلب منى أن أسافر كما يشيعون فى القاهرة، وهو لا يستطيع أن يمنعنى.

وحين سألت:

ــ ولماذا لا يستطيع؟! ــ ألا يملك سلطة...

ولم ينتظر أن أكمل كلامى، بل قال بحدة:

ــ هو لا يملك أى سلطة، وهو لا يستطيع، وبدورى قاطعته قائلا:

ــ «أشرف».. أليس هذا كلاما كبيرا؟!!

وكان رده هو موضع المفاجأة الحقيقية:

ــ هو لا يستطيع.. أقولها لك، أننى أستطيع تدميره.

والتفت إليه أدقق فى ملامح وجهه، وكرر العبارة بالإنجليزية تلك المرة قائلا: I can destroy him، زاد قائلا: أستطيع تدميره وتدمير غيره معه ـــ وذكر اسم اللواء عمر سليمان.

قالها ــ وكررها ــ وهو يمد سبابته إلى الأمام فى تأكيد إضافى!!

وقلت: إننى أفضل أن نكمل حديثنا فى «الدورشستر».

وعندما دخلنا إلى الفندق، قصدنا مائدة على الطرف، ولم نكد نجلس حتى سألته مباشرة: إنه لا داعى ليضيع وقته، فهو يعرف ما أريد أن أسأل فيه، وأنتظر الإجابة عنه!!

وسألنى «أشرف»:

ــ هل تصدق أننى «جاسوس»؟!!

وقلت:

ــ إن هذا سؤال فى غير محله، على الأقل ما نحن بصدده ليس مسألة تقييم شخصى، وإنما مسألة وقائع مذكورة فى وثائق، وكلها يحتاج إلى كلام لا يحتمل اللبس، وليس مسموحا لأحد بتداخل المشاعر فى تكييف القضايا.

وأنا أريد أن أسمعك بقلب مفتوح، وعقل مفتوح أيضا، ومقدما فإنى أريد أن أصدق ما سوف تقوله لى.

ــ ما الذى تريد أن تسألنى فيه بالضبط؟!

وقلت: «إننى أريده أن يعرف أن ما نُشر فى الصحف الإسرائيلية لا يهمنى كثيرا، وإنما تركيزى كله على ما هو فى الوثائق الإسرائيلية، وما جرى تداوله فى التحقيقات، سواء فى لجان «الكنيست»، أو لجان التحقيق الخاصة، وبالذات تلك اللجنة التى رأسها «مناحم مازوز» النائب العام الإسرائيلى، فذلك محقق مدقق، قرأت الكثير عن كفاءته، وقد كان معه جمع من أبرز رجال القانون فى إسرائيل.

وباختصار فإن مجمل المعلومات التى لا أشك فيها، ومن كل ما اطلعت عليه تؤكد أمامى عدة حقائق:

1ــ أنه كان لإسرائيل فى مصر «شخص» على مستوى يسمح له بأن يعرف.

2ــ أن هذا «الشخص» لم يقدم لها المعلومات فحسب، وإنما قدَّم لها صورا من أسرار البلد فى لحظة شديدة الحرج من تاريخه.

3ــ أن هذا «الشخص» أخطرها مسبقا ضمن ما أخطرها به ــ بموعد قيام حرب أكتوبر، وساعة الصفر المقررة لعملياتها.

4ــ أن هذا «الشخص» قدَّم نفسه لإسرائيل فى لندن سنة 1972، وقد رتب له بعض من يعرفهم ويتصل بهم زيارة إلى عيادة الدكتور «إيمانويل هربرت»، وهى نفس العيادة ونفس الطبيب الذى قام بدور صلة الوصل بين الملك «حسين» (ملك الأردن) الراحل، وبين الإسرائيليين، وفى عيادة هذا الرجل وبمساعدة من سلطات إنجليزية نافذة، تمت لقاءات وجرت لقاءات ووقعت تفاهمات.

وإذن فإن هذا الطبيب وهذه العيادة لهما تاريخ سرى راسخ.

5ــ أن هذا «الشخص» عندما ذهب أول مرة إلى عيادة الدكتور «هربرت»، ورغم اتصالات مسبقة طلب موعده لطلب استشارة، وقد وصل معه ملف دخل به إلى سكرتيرة «هربرت»، وحمله معه حين دخل إلى حجرة الكشف الخاصة، وقدمه إلى الطبيب الذى فتحه ووجد بالفعل ورقة طبية على السطح، لكن الورقة التالية فى الملف كانت محضر اجتماع سرى بين الرئيس «السادات» وبين القادة السوڤييت، وهو اجتماع مارس 1976، والذى اختلف فيه الطرفان حول طائرة الردع التى كان «السادات» يطلبها من السوڤييت وهم يترددون.

وحين توقف الدكتور «هربرت» أمام هذه الورقة، وقال لزائره «هذه الورقة وُضعت خطأ فى الملف، وهى لا تتصل به».

فإن هذا «الشخص» قال للطبيب: إن الورقة لم توضع خطأ، وإنما هى صميم الموضوع!!

وكانت تلك هى البداية، وبعدها جاء مدير الموساد الچنرال «زامير» بنفسه إلى لندن، و...

وقاطعنى «أشرف مروان»: إذا كنت أقول إنه هو هذا «الشخص».

وقلت: إننى لم أقل، ولكنهم فى إسرائيل قالوا، ولو كنت صدقتهم لما كان هناك داع أن ألقاك، وأن أجىء معك إلى هنا، وأن أسألك ــ ثم أن أنتظر لأسمع منك جوابا؟!!

ومد «أشرف مروان» يده إلى الجيب الداخلى لـ: چاكتته، وأخرج منها ورقة ناولها لى، وكانت قُصاصة من جريدة «الأهرام»، نشرت نص ما قاله الرئيس «السادات» فى تكريم «أشرف مروان» عندما ترك منصبه فى رئاسة الجمهورية، والتحق بالهيئة العامة للصناعات العسكرية، (وهى هيئة أنشأتها مصر والسعودية والإمارات العربية لتصنيع السلاح)، ونظرت فى القصاصة ثم طويتها وناولتها لأشرف، وسألنى: «ألا تكفيك شهادة «أنور السادات» حين يقول إننى قدمت خدمات كبيرة لمصر؟!!».

وقلت لأشرف صراحة: «أن ما قرأته منسوبا لـ «أنور السادات» لا يجيب عن سؤالى»، وأضفت «أنه قبلى يعرف قيمة أى كلام مرسل مما يُقال فى المناسبات، وعلى أى حال فإنه إذا رأى أن يكتفى به فهذا حقه، وأما بالنسبة لى فإنه ببساطة لا يكفى»، وأضفت: «إن ما نحن بصدده لا يمكن الرد عليه إلا بما هو واضح ومحدد ــ وقابل للإقناع!».

وبدا عليه الحرج وسألنى:

ــ هل تتصور أن صهر «جمال عبدالناصر» جاسوس؟! ــ وأنت كنت أقرب الأصدقاء إليه وتعرفه؟!!

وقلت بصراحة: «دعنى أكون واضحا معك، لا شهادة حُسن سير وسلوك من «أنور السادات»، ولا صلة مصاهرة مع «جمال عبدالناصر» تعطيان عصمة لأحد.. نحن أمام مشكلة حقيقية تقتضى وضوحا مقنعا حقيقيا».

وفجأة وقع ما لم أكن أنتظره، فقد أقبل «خالد عبدالناصر» ومعه ثلاثة من أصدقائه اللبنانيين، وهو يقول لأشرف ضاحكا:

«كلفناك كثيرا يا دكتور.. دعوتنا على الغداء ولم تظهر، وانتظرناك وطلبنا على حسابك كل ما أردنا».

وبدأ أشرف يشرح لى: الحقيقة أننى كنت دعوتهم على الغداء هنا، وعندما عرفت أنك سوف تكون فى السفارة اللبنانية آثرت أن أطلب من السفير «جهاد مرتضى» (السفير اللبناني) أن يدعونى معك لألقاك، وحاولت الاتصال بـ«خالد» أعتذر له، ولم أستطع العثور عليه، واتصلت بمطعم «الدوشستر» أبلغهم أن «خالد» وأصدقاءه ضيوفى، وعليهم أن يضموا حسابهم إلى حسابى!!

وقلت، والشبان الأربعة وأولهم «خالد عبدالناصر» يجلسون معنا: «إذن فقد كنت تعرف حين اقترحت أن تجىء إلى «الدوشستر» أن هناك من ينتظرك فيه».

وقال: «إن ذلك لم يكن ترتيبا مقصودا أو مدبرا، لكنه على أى حال يهمه استكمال حديثنا على مهل، ويقترح أن يمر علىَّ صباح غد فى الساعة العاشرة صباحا، ثم نذهب معا للمشى فى حديقة «هايد بارك»، ونتحدث بالتفاصيل فيما أريده، وفى جو مفتوح نضمن أن لا أحد يتسمَّع علينا فيه».

●●●

وصباح اليوم التالى وقبل الساعة العاشرة صباحا بخمس دقائق خرجت من باب فندق «الكلاريدچ» إلى الرصيف شارع «بروك»، أنتظر «أشرف مروان» لكى نذهب معا إلى حديقة «هايد بارك»، وهى قريبة منى عبر شارع «سوث أودلى»، وفى العاشرة بالضبط وصلت سيارة «أشرف»، ونزل سائقها يقدم نفسه على أنه «أحمد» السائق الخاص للدكتور «أشرف مروان»، ولديه رسالة شفوية:

«إن الدكتور أصيب صباح اليوم بنزيف اضطره للذهاب إلى المستشفى، على أنه سوف يتصل به مساء اليوم فى الساعة الخامسة لكى نحدد موعدا آخر».

ولم يتصل بى «أشرف مروان».

ولم أتصل به.

حتى سمعت بالنهاية المأساوية والحزينة التى انتهت بها حياته!!

●●●

وفى كل الأحوال فقد أصبح الآن مؤكدا أن إسرائيل كان لها فى مصر جاسوس على مستوى عال، وأن هذا الجاسوس أبلغها بما كان محظورا إبلاغها به، حتى ولو كان الإبلاغ عن يوم الهجوم، (وحتى لو اختلفت الساعة).

وهذا الجاسوس ــ أيا كان ــ لم يكن عميلا مزدوجا، فليست هناك ورقة واحدة فى رئاسة الجمهورية ولا فى المخابرات العامة تحتوى إشارة عن نشاطه، وهذه نقطة حرجة.

وكان وجود مثل هذا الجاسوس ظاهرا حتى فى أول رسالة بعثت بها رئيسة وزراء إسرائيل «جولدا مائير» إلى الرئيس الأمريكى «ريتشارد نيكسون» وذلك قبل أن تنشب العمليات بعشر ساعات على الأقل، ولذلك فإنه من الحيوى أن يعرف كل مصرى من هو؟! ــ ولماذا؟! ــ وكيف؟!!


فى الحلقة القادمة:

                           ● رجل تقدم الصفوف فجأة إلى قمة السلطة.. ماذا نعرف عنه؟

                           ● كانت علاقة الرئيس حسنى مبارك وجيهان السادات ظاهرة تستحق الدراسة

محمد حسنين هيكل (الحلقة الثانية عشرة) : مبارك وزمانه مـن المنصة إلى الميدان (الحلقة الثانية عشرة) .. حسين سالم !!

 

مبارك وزمانه مـن المنصة إلى الميدان (الحلقة الثانية عشرة) .. حسين سالم !!


حسين سالم وعمر سليمان
عندما بدأ ترشيح «مبارك» لمدة رئاسة ثالثة لم يكن فى مقدورى غير أن أقف بعيدا لا تأييد ولا معارضة، وللحقيقة فإنه لم يكن الآن فى حاجة إلى سند من أى طرف، فقد عزز مواقعه، أو كذلك بدا داخليا وخارجيا ـ أو بالعكس.

وأكثر من ذلك فقد تمكَّن من تفريغ محيط النخبة فى مصر، فلم تتعد تتسع لغيره، أو لمن يشاء ويختار، إذا جاءت ضرورات للاختيار، حتى بالنسبة لمنصب نائب رئيس الجمهورية.

ولم يكن «مبارك» على أى حال مستعدا لقبول «رجل» يجلس خلفه أو يجلس بجانبه فى انتظار موعد التغيير أو مفاجأة المقادير، وكان عذره للناس «أنه لا يريد أن يفرض عليهم بديلا، إذا عُيِّن بقرار منه نائبا له»، وكان فى ذلك القول منطق، وفى ظاهره حق، ولم يخطر ببال أحد أن ظاهر الحق قد يخفى وراءه خاطرا ما زال بعيدا فى ضباب المجهول!!

لكن الرجل ـ وهو يؤبد لحكمه برئاسة ثالثة ـ وإلى آخر «نبض يخفق، ونَفَسْ يتردد» على حد ما قال، لا يزال كما كان فى أول يوم سؤالا بلا جواب!!

من هو الرجل بالضبط؟! ـ وماذا يعلم الناس عنه أكثر من اختيار «السادات» له؟! ـ ما الذى علَّمته له السلطة خلال قرابة العشرين سنة قضاها على قمة سلطة لم يكن يريدها، ولم يكن مستعدا لها (كما قال وكرر)؟!!

وما هى بالضبط عناصر ثقافته، وماذا أضاف الحكم إليها، أو ماذا حذف منها أو صحح؟!!

●●●

ولعل أسباب القلق زادت وظهرت إلى العلن عندما لاح شبح السيد «حسين سالم» قريبا من «مبارك»، وفى الواقع فإن اسم «حسين سالم» تقاطع مع اسم الرئيس «مبارك»، وإن لم يكن التماسا ظاهرا فى البداية، والواقع أن العلاقة بين الاثنين تبدت منذ وصول «مبارك» إلى مقعد الرئاسة عقب اغتيال الرئيس «السادات»، وبالذات فى معرض قضية نظرت بالفعل أمام محاكم «فلوريدا»، وهى تخص شركة (ايستكو) لنقل المعدات العسكرية الأمريكية الممنوحة لمصر، بمقتضى المساعدات الملحقة باتفاقية السلام مع إسرائيل، فقد كان اسم «مبارك» بصفته الرسمية مسجلا فى مستندات القضية كواحد من مؤسسى الشركة، وراح الصحفى الأمريكى الذائع الصيت فى ذلك الوقت «چاك أندرسون» يكتب عنها ويشير إلى «مبارك» بالاسم فى عموده اليومى الذى تنشره مئات الصحف الأمريكية.

لكن الضجة التى ثارت من حول القضية هدأت حدتها ونامت وقائعها، إلا من حكم صدر غيابيا يمنع «حسين سالم» من دخول أمريكا.

لكن شبح «حسين سالم» بقرب «مبارك» بدأ يخرج من الظل إلى ضوء الشمس مع تحول منتجع «شرم الشيخ» إلى شبه عاصمة سياسية ـ ثانية ـ لمصر، وكان «حسين سالم» بمثابة العمدة لهذه العاصمة الثانية («شرم الشيخ»)!!

●●●

وبمحض مصادفات ذات يوم سنة 1988 وجدت السيد «حسين سالم» أمامى، فقد صعدت إلى طائرة سويسرية من مطار القاهرة قاصدا «جنيف»، وبعد أن أقلعت الطائرة واستوت فى الجو، وإذا رجل طويل القامة أسمر الملامح يقف بجوار مقعدى، ويقدم نفسه لى على أنه: «حسين سالم».

وسألته تلقائيا عما إذا كان هو «ال»: حرف The، الذى يستعمل فى وصف شخصية بالذات تحمل اسما بالذات شاعت حوله مواصفات تخصه، وصفات تشير إليه تحديدا.

ورد الرجل بحيرة ظاهرة: «لا أعرف من هو «The» الذى تقصده، ولكنى أظنه أنا».

وأوضح أنه كان يجلس فى مقاعد الوسط فى الطائرة السويسرية، ورآنى أدخل الطائرة وأجلس على الجناح الأيمن لها فى الصف التالى، وراودته فكرة أن يتحدث معى، ثم استأذن إذا كانت قرينتى الجالسة إلى جوارى تسمح بأن تنتقل إلى مقعده بجوار زوجته، لأنه يريد أن يتحدث معى بعض الوقت، وكذلك جرى، وعندما جلس إلى جوارى كانت أول ملاحظة قلتها له: «هذه السيدة ـ زوجتك ـ شابة جدا عليك»، وفهم الملاحظة ورد عليها: «إن هذه زوجته الثانية، وأضاف: هى «ليست أم الأولاد»، لدىَّ فى الحقيقة زوجتان: واحدة للبيت والعائلة، وهى أم الأولاد، وثانية للسفر والسياحة».

وعلَّقت: «أن هذا ترتيب عبقرى، لا يقدر عليه إلا ذوى العزم من الرجال، خصوصا إذا كانوا أصدقاء «بالالتصاق» مع رئيس الدولة».

ورد: «هذا بالضبط ما أريد أن أتحدث فيه معك، وقد أحسست أن الفرصة جاءتنى من السماء، عندما وجدتك على نفس الطائرة، وأمامنا أربع ساعات كاملة إذا سمحت لى «الهانم»، (يقصد قرينتى)، وبادلت ـ مؤقتا ـ  مقعدها بمقعدى.

ورجوته ألا يقلق، لأن «هدايت» تعوَّدت على كثرة ما تأخذنى الأحداث منها ـ والمصادفات أيضا.

وجلس إلى جانبى، وأشار إلى السيدة التى وصفها بأنها زوجة السياحة والسفر وقال:

«إنها شابة وجميلة، ولديها فكرة عن الدنيا، ووجودها معى عندما لا أكون فى مصر أو إسبانيا يجعل حياتى شيئا آخر».

وأضاف: «فى مصر عيونهم مفتوحة على كل حركة، وفى إسبانيا (حيث تقيم زوجته أم الأولاد فكل واحد من الناس فى حاله)، ولكن العالم أوسع من مصر ومن إسبانيا!!».

وقلت له «إن تقسيمه للاختصاصات ـ جغرافيا ـ على هذا النحو مثير، وربما كان يعبر عن أسلوب رجل عمل فى المخابرات له حياتان: واحدة يراها بعض الناس، وأخرى يراها غيرهم».

ومرة أخرى فهم «حسين سالم» الإشارة وقال:

ـ إننى قرأت لك كل ما كتبت، ومعنى ذلك أننى أعرفك، وأما «سيادتك» فلا تعرف عنى إلا ما سمعته من غيرى، ومعظمه «تشويه مقصود»!!

وسألته:

ـ لماذا تتصور أنه «تشويه» وأنه «مقصود»؟!! ـ أنا شخصيا سمعت الكثير عما هو «مهم» وما هو «مثير»، وبعضه أيضا «خطير»!!



حسين سالم ومبارك

●●●

وسألنى عن معنى «مثير»، وقلت «إننى سمعت مثلا أنك المسئول عن توريد ملابس «مبارك»، وأنك ترتب لها مع محل «بريونى»، وقاطعنى يقول: «إن هذا بالضبط هو التشويه المقصود»!!

واستطرد: الحكاية لها أصل «عادى»، لكن التشويه المقصود خرج بها عن كل الحدود!».

وراح يشرح:

«أصل الحكاية أن الرئيس «مبارك» ـ ولعلمك فأنا أحبه كثيرا، وهو صديق من زمن طويل ـ كان يزور الإمارات العربية المتحدة لاجتماع مع رئيسها الشيخ «زايد»، وقاطع نفسه ليقول: «لابد أنهم قالوا لك إننى أعرف الإمارات جيدا، وعملت هناك لسنوات طويلة ممثلا لشركة النصر للتجارة، وهى كما تعلم إحدى شركات المخابرات» ـ ثم عاد إلى سياق حديثه:

كان الرئيس «مبارك» على موعد مع الشيخ «زايد»، ووصل الشيخ «زايد» إلى قاعة الاجتماع بعد الرئيس بدقيقتين، واعتذر للرئيس عن التأخير «بأنه كان مع جماعة «بريونى» (محل أزياء الرجال الإيطالى الشهير)، يجرون قياسا جديدا له، لأن قياسه الموجود عندهم لم يعد ملائما بعد أن فقد الشيخ «زايد» بعض وزنه)، وراح الشيخ «زايد» يستعجل خبراء «بريونى» (كما قال للرئيس)، لكنهم «كما تعرف فخامة الرئيس حريصون على شغلهم، يحسبون المقاسات بالمللى»، وأبدى «مبارك» إعجابه بذوق «بريونى» Brioni، وسأل عن إمكانية أن يعرضوا عليه ما لديهم ذات يوم، ورد الشيخ «زايد» بكرمه المعهود «ولماذا لا يفعلون ذلك، وأنت هنا فى «أبو ظبى»؟!! ـ والأمر لن يستغرق أكثر من ربع ساعة أول مرة، وسوف يصنعون «على مقاسك نموذجا بالحجم الدقيق، ثم يفصِّلون عليه، ولا تراهم مرة ثانية إلا عندما يجيئون إليك لتجربة نهائية بعد أن يفرغوا من صنعه، وفى كل الأحيان سوف تجده مطابقا ومضبوطا إلا إذا تغيَّر وزنك كثيرا، وفى كل موسم فإنهم سوف يرسلون إليك من عينات أقمشتهم أحسنها، وتختار من العينات ما يعجبك، وفى ظرف أيام يكون معلقا فى خزانة ملابسك، ثم هم أيضا مع كل «طقم» يرسلون إليك ما يناسبه من القمصان وربطات العنق».



مبارك مع الشيخ زايد

وأعجب الرئيس «مبارك» بالفكرة، وتم ترتيب موعد يذهب إليه خبراء «بريونى»، حيث ينزل فى «أبوظبى» ـ فأخذوا مقاساته، واختار من عينات القماش عدة ألوان.

وقاطعته: كم قطعة اختار؟! ـ واحتار قليلا ثم أجاب: ثلاثين قطعة إذا كانت ذاكرتى سليمة ـ لا تنس أنه رئيس دولة، ثم إن المعروض عليه كان كثيرا، وهم يلحِّون عليه بتقديم أقمشة وألوان جميلة!!

هذه هى الحكاية ـ هذا هو أصل الحكاية ـ أصل الحكاية هدية من الشيخ «زايد» ـ وهذا ما أعرفه، بأمانة لا أعرف إذا كان الرئيس قد كرر الطلب من «بريونى»، وإذا كان فعل، فلم يكن ذلك عن طريقى!!

واستدرك «حسين سالم» «أنه تحدَّث معى بصدق ولم يخف شيئا، لأنه ـ ببساطة ـ لا يريد أن يلف ويدور على «رجل مثلى»!!

وشكرت له «حسن ظنه»!!

●●●

وقلت: «إننى أريد أن أسمعه فيما يقول، وأما التصديق فمرهون بالتفكير على مهل لاستيعاب الروايات والمقارنة بينها، وأنا لا أريد أن أخدعه بالتظاهر».

استطردت قائلا: «إننى سوف أترك هذه الحكاية «المثيرة» إلى غيرها».

ونظر إلىَّ باهتمام وقال: «إنه مستعد لأى سؤال»، وقلت: قيل لى من عدة مصادر أنك كنت المسئول عن اختيار هدايا أمراء الخليج إلى قرينة الرئيس.

ورد بسرعة بدون أن أكمل ما أريد، قائلا: «هذه أيضا لها أصل، ولكن عملية التشويه لحقت بأصل الوقائع».

واستطرد يسألنى: أنت تعرف قرينة الرئيس؟!!

وقلت: «إننى لم أتعرف عليها شخصيا، لكنى لا أنكر أننى فى وقت من الأوقات كنت أعلق أملا عليها، فقد كان تصورى وأنا أعرف أنها درست العلوم الاجتماعية فى الجامعة الأمريكية، واهتمت كثيرا بحى «بولاق»، وأجرت فيه أبحاثا ـ قد تكون عنصر توازن يكمل ثقافة زوجها، فهى تعرفت بالتدقيق على الواقع الاجتماعى فى البلد وتستطيع تذكيره به إذا كان نساه!!».


ومرة أخرى لم ينتظر «حسين سالم»:

قال وهو يقصد الكلام عن قرينة الرئيس: «إن «سوزى» ـ هكذا ـ سيدة ممتازة ولها ذوق رفيع، وهى على صداقة بأسر عدد من الحكام فى الخليج، وهى تزورهم وهم يزورونها، وبالطبع فإنهم كرماء فى هداياهم، وهى أيضا ترد لهم الهدايا»، واستدرك: «لكنها لا تستطيع أن تجارى».

على أن المشكلة التى ظهرت أنهم يختارون لها الهدايا قبل مجيئهم أو قبل ذهابها هى، وفى كثير من الأحيان تجىء الهدايا مكررة، وتتلقى قرينة الرئيس ـ نفس الشىء ـ نفس الطقم مرتين وثلاثة وأحيانا أربعة، وبالطبع فإن التنويع مطلوب، وكذلك «طلبوا» أن أرى الهدايا حتى لا تتكرر الأطقم، فعلت هذا بعض الوقت، لكن التكرار وقع برغم الاحتياط، ثم تقرر أن ترسل عينات الهدايا المقترحة إلى مصر قبل أى لقاء، وهناك يجرى الاختيار منها، بنظر من يعرف ما لديه، ويفضل جديدا غيره».

وعاد يسألنى: أين الخطأ هنا؟ ـ الناس هناك يحبون التعبير عن مشاعرهم بالهدايا، وهداياهم غالية، والهدايا لا يصح أن تتكرر، وإلا ماذا يفعل بها الذين يتلقونها، هل يلبسون نفس «الرسم» كل مرة، أو يبحثون عن طريقة تضمن التجديد؟ ـ هل تتخيل أن يجىء من نفس الطقم نسخا مكررة، وماذا يفعلون بها، وإذا باعوا المكرر واحتفظوا بنسخة واحدة من الرسم، ألا يثير ذلك انتقادات وحكايات وشائعات؟!!

●●●

وقلت له: دعنا من كل ما هو «مثير» فيما سمعت عنك، دعنا نتكلم عما هو «خطير» ـ أقصد موضوع السلاح!!

ومد بصره عبر نافذة الطائرة، وقال: هذه قمم جبال الألب أمامنا، والطائرة أوشكت على الهبوط فى «جنيف»، ولكن لا تظن أننى أتهرب من سؤالك ـ فأنا على استعداد للكلام فيه.

وأكمل يسألنى:

ـ ماذا لو التقينا على الغداء غدا، لنكمل الحديث؟!!

وقلت: إننى مدعو على الغداء غدا مع السفير المصرى فى «جنيف» (الدكتور «نبيل العربى»).

وقال: أعرف أنه «عديلك»، وقلت إن ذلك صحيح، وعلى أى حال فقد أستطيع إقناعه بتأجيل غدائه، وإذا رضى فسوف أقبل دعوتك.

واستأذن أن ينتقل إلى مقعده بجوار «زوجة السفر والسياحة» قبل هبوط الطائرة.

وعندما نزلنا إلى مطار «جنيف» كان السفير الدكتور «نبيل العربى» وقرينته فى استقبالنا، وقال لى «نبيل العربى»: إنه دُهش عندما وجدنى أخرج من الطائرة مع «حسين سالم»، واستأذنته وقرينته فى تأجيل غدائى معهما إلى اليوم التالى، ووافق الاثنان، وكلاهما يستطيع أن يفهم اهتماماتى ويقدرها.

والتفت إلىَّ «حسين سالم»، وقلت له إننى سوف أقبل دعوته غدا، وقال هو: إذن غدا فى فندق «الريزرڤ» La Reserve، وحاول «حسين سالم» مد الدعوة إلى «نبيل العربى»، لكن ذلك السفير اليقظ والمقتدر ـ اعتذر قائلا: «إنه يتصور أن بيننا حديثا، من الأفضل إتمامه على انفراد» ـ وقد كان!!

●●●

وكان واضحا لى من أول نظرة على المائدة التى وُضعت فى ركن بعيد من حديقة فندق «الريزيرف» ـ أن «حسين سالم» اتخذ من الترتيبات ما يجعل غداءه «مناسبة خاصة» ـ فقد كانت المائدة مُعدَّة بعناية ملحوظة، كما أن رئيس الخدمة فى الفندق كان واقفا بجوارها يُشرف على تهيئتها بنفسه، وإلى جوارها كانت مائدة يتوسطها حامل من الفضة عليه زجاجة نبيذ مفتوحة، لاحظت أنها «شاتولاتور 1949»، وأبديت دهشتى، فهذه زجاجة نبيذ لا يقل ثمنها عن عشرة آلاف دولار، وعلَّقت عابرا على نوع زجاجة النبيذ، ثم أضفت: «أنها خسارة لأنى لا أشرب»، وللإنصاف فقد رد قائلا: «ولا أنا» ـ وقلت: إذن لماذا فتحتها، وقال: «إن رئيس الخدمة (المتر دوتيل) رأى أن يفتحها مبكرا، لأن النبيذ المعتق يحتاج أن يتنفس الهواء»، وكان رئيس الخدمة قد نقل جزءا منها إلى إناء من الكريستال بقربه شمعة مشتعلة تشيع من حولها دفئا قبل صبها فى كئوس الشاربين. وقال «حسين سالم»: «لقد فتحها وانتهى الأمر» ـ ورجوته إبعادها عن المائدة، لأن وجودها بالقرب منا مستفز دون داعٍ، وأشار إلى رئيس الخدمة، وطلب إليه أن «يتصرفوا» فى النبيذ، وبدا الرجل مرتبكا، لكن «حسين سالم» طمأنه بصوت خفيض بما معناه (كما أظن) أنه سوف يدفعها ضمن الحساب، حتى وإن لم نستهلكها، وكان الرجل أكثر ارتباكا، لكن ارتباكه هذه المرة كان بالسعادة وليس بالقلق!!

ولم أشأ إضاعة الوقت، فقلت:

ـ على أى حال زجاجة نبيذ من هذا النوع ـ تغرى على الفور بموضوع تجارة السلاح!!

وقال على الفور: أنا لا أحب تجارة السلاح ـ ولم أدخل فيها، تجارة السلاح خطرة على من يقترب منها ـ وعلى من يتاجر فيها، أو حتى يكتب عنها، أضاف فيما أحسست به شبه تحذير:

ـ أرجوك ألا تكتب أبدا عن موضوع تجارة السلاح ـ لأنه مجال خطر، ومن يعملون فيه «قلبهم ميت»، لا يتورعون عن شىء!!

وقلت:

«إن كل مهنة لها مخاطرها، الصحافة بالطبيعة خطرة، والبحث عن الحقيقة فى أى مجال يعرض الباحث باستمرار لأصحاب المصالح، والمصالح فى السلاح مروعة، والاقتراب منها مروع أيضا».

ثم أضفت لطمأنته:

ـ «وأنا فى هذا اللقاء لست صحفيا، ثم إن اهتمامى هو بالسياسة أكثر منه بالسلاح!!».

وقال: «إنه أولا ولعلمى الخاص يريد أن يوضح أنه لم يدخل فى تجارة السلاح، وإنما دخل فى نقل السلاح، وهناك فرق كبير بين النقل، وهو عملية شحن بضائع، حتى وإن كانت سلاحا ـ وبين تجارة السلاح فى حد ذاته باعتباره هذه البضاعة!».

وقلت له: «إننى أريد فهم القضية أكثر مما يهمنى نشرها».

أضفت: «لكى أكون صريحا معك، فإننى بعد لقائنا فى الطائرة، اتصلت بمكتبى وطلبت أن يرسلوا إلىَّ صورا من بعض الأوراق التى حددتها لهم، وجاءتنى هذه الأوراق وراجعتها، وهى الآن معى فى السيارة التى جئت بها إلى هنا».

وسألنى إذا كان يستطيع أن يراها، لأنها سوف تساعد على تحديد ما أريد أن نتحدث فيه!!

واتصلت بسائق سيارتى أطلب إليه أن يجىء بمظروف تركته فيها، وكان «حسين سالم» يتابع حركة المظروف، ينتقل من يد السائق إلى يدى، ثم يتابع حركة يدى، وأنا أستخرج مجموعة أوراق ناولتها له.

●●●

كانت الأوراق التى سلمتها له مجموعة وثائق:

1ـ حكم استئناف الدائرة الرابعة فى القضية بتاريخ 4 نوفمبر 1983، والقضاة فيها ثلاثة هم: «رسل» و«فيلبس» و«مور ناجان»، وهم مكلفون بالنظر فى دعوى رفعتها الحكومة الأمريكية على مجموعة من الشركات يمثلها المستر «ادوين بول ويلسون»، وضمن منطوق الحكم ذكر لشركة «ايتسكو» Eatsco، وهى شركة يملك «حسين سالم» 51% من أسهمها، كما يرأس مجلس إدارتها خمسة رجال يحملون أسماء نافذة فى مصر، وكلهم فى صميم القرار السياسى، والشركة طبقا لعريضة الاتهام تولَّت عمليات نقل أسلحة أمريكية إلى الشرق الأوسط، وفى الإشارة ما يوحى بالشبهات فى عملية بين هذه المجموعة وبين شركات السلاح، ثم صلة صحيفة الدعوى وقد تردد فيها ذِكر وكالة المخابرات المركزية، وأخيرا معلومات عن تلاعب فى الفواتير.

2ـ نص حكم قضائى آخر صادر ضد شركة «ايتسكو» بالتحديد، والشركة متهمة بالاسم، ومقدم الدعوى وزارة الدفاع الأمريكية التى حصلت فيها على حكم، بعد أن أثبتت أن الشركة «غالطت» الحكومة الأمريكية فى مبالغ بملايين الدولارات، أضافتها بالتزوير إلى فواتير نقل السلاح.

وقد صدر الحكم غيابيا على «حسين سالم» ـ إلا أنه سارع إلى مغادرة الولايات المتحدة قبل إعلانه.

وأصدر مكتب النائب العام الأمريكى أمرا بالقبض على «حسين» إذا وصل إلى أراضيها.

3ـ مجموعة مقالات للصحفى الأمريكى الشهير «چاك أندرسون»، نشرتها جريدة الواشنطن بوست، عن قضايا تجارة السلاح.

ـ أولها بعنوان «عقود السلاح ـ الفضيحة تطبق على الرؤساء فى مصر!!».

واسم «مبارك» موجود فى المقال فى معرض تقرير وصل إلى الرئيس «السادات» عن تردد اسم اللواء «منير ثابت» (مدير مكتب المشتريات العسكرية فى واشنطن) مع اسم «حسين سالم» فى سياق أرباح وعمولات تتصل بـ«نقل الأسلحة»، ويشير «چاك أندرسون» فى مقاله صراحة إلى برقية من وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 2 يوليو 1979 تخطر الخارجية: «بأن الرئيس «السادات» كلف «حسنى مبارك» بالتحقيق فى التقرير».

لكن السفارة الأمريكية فى القاهرة ردت فى اليوم التالى ببرقية تقول فيها: «إن مصادرها أكدت لها أن نائب الرئيس سوف يغطى على التحقيق، لأن «منير ثابت» هو شقيق زوجته، وأن «مبارك» ساعد على ترقيته من منصب مساعد الملحق العسكرى فى واشنطن، إلى منصب مدير مكتب المبيعات العسكرية الأمريكية لمصر.

وتطرق المقال إلى ذكر «حسين سالم» وشركة «ايتسكو».

ـ وكان المقال الثانى لـ«چاك أندرسون» أيضا تحت عنوان «فلسطينيون يسيطرون على مبيعات السلاح إلى مصر»، وكانت الإشارة إلى رجل أعمال من أصل فلسطينى، يعيش فى الإمارات، وتربطه شراكة مع «حسين سالم»، وفى المقال أن «مبارك» ـ الذى أصبح رئيسا لمصر ـ وكذلك أنت (موجها الحديث مباشرة إلى «حسين سالم») ـ شركاء فى صفقات سلاح تتم فى الغرف الخلفية، وأن وكالة المخابرات الأمريكية على علم بالتفاصيل، بل إنها تدخلت فى بعض اللحظات ـ للتسهيل والتشهيل!!

4ـ وكانت الوثيقة الأخيرة تقريرا عن سفينة شحن اسمها «بوميه» تناوبت على تأجيرها شركات إسرائيلية، وكذلك أجَّرتها شركة «ايتسكو»، وتلى ذلك تفاصيل فيها ذكر لأسماء مسئولين مصريين شاركوا فى عمليات تجارة الأسلحة، من «نيكاراجوا» إلى «أفغانستان» إلى «إيران»، وفى مقابل عمولات طائلة، وكانت الإشارات إلى «حسين سالم» متكررة، كما أن الإشارات إلى شركة «ايتسكو» وإلى علاقاته بمسئولين مصريين كبار، ظاهرة فى حركة نشيطة واصلة من «واشنطن» إلى «مدريد» إلى «القاهرة» إلى بلاد أخرى بعيدة.

وفرغ «حسين سالم» من تقليب الأوراق، ثم كان أول تعليق له:

«الأمريكان أولاد الـ(...) هدفهم بالدرجة الأولى ابتزاز السياسة المصرية، وتصوير الأمور بما يوهم الناس بأن لديهم وسائل للسيطرة Control على مسئولين مصريين.

ثم بدأ يدخل فى تفاصيل كثيرة عن صفقات سرية لبيع السلاح، وكان تركيزه بالدرجة الأولى أن معظم هذه الصفقات لصالح المجاهدين فى أفغانستان.

●●●

وفوجئت به يوجه إلىَّ سؤالا: عما إذا كنت ضد تسليح المجاهدين فى أفغانستان؟!!

وقلت إننى لا أريد أن أتشعب بالحديث إلى موضوعات نستطيع أن «نغرق» فيها حتى الصباح!!

وقال:

«إنه يعرف أننى مهتم بالسياسة، ثم إننى لا أعرف «مبارك» بما فيه الكفاية، وهو يريدنى أن لا أظلم الرجل، فليس عيبا أن الرجل اقترب بوظائفه فى لحظة من اللحظات من موضوع السلاح.

وربما خطر له شىء، لقد كان على وشك انتهاء خدمته فى سلاح الطيران، ولم يكن يعرف أن الرئيس «السادات» سوف يختاره نائبا له، ومن الطبيعى أن يفكر الرجل فى مستقبله ومستقبل أولاده، وأن يبحث فى الخيارات المتاحة له، لأنه سيخرج وهو بالكاد فى الخمسين من عمره.

وأنا لا أقطع بشىء، ولكن لاحظ أن الرجل كان قريبا من موضوع السلاح للدول العربىة، وأقول لك إنه ربما ـ ربما خطر له الاشتراك مع بعض زملائه فى شىء ـ أنا أقول ربما ولا أقطع بشىء ـ هذا ما أستطيع أن أقوله ـ وأكثر منه لن أقول شيئا»!.

وكان واضحا أنه بلغ نقطة لا يستطيع أن يتزحزح بعدها.

●●●

وانتقلت بالحديث إلى بيع الغاز لإسرائيل، ولم تكن الاتفاقيات الكبرى قد عُقدت بعد، ولا خط الأنابيب قد امتد مساره عبر سيناء، وقال «حسين سالم»:

«نعم عقدت صفقات غاز لإسرائيل، الغاز يظهر فى مصر بغزارة، ونستطيع أن نصدره».

وسألته عن الأسعار، واستغربت رده:

«عقدت صفقات مع إسرائيل لها دواعيها السياسية وهى أكبر منى، وأما الغاز لإسبانيا، فلأنى مدين للإسبان، فقد أعطونى الجنسية الإسبانية، ورحبوا بى وبعائلتى هناك، وأكرمونا فى الحقيقة، وكان لابد أن أرد لهم الجميل!!».



عمر سليمان ومنير ثابت

●●●

وكان آخر مشهد ظهر فيه «حسين سالم» على الساحة المصرية هو ركوبه لطائرته الخاصة من مطار «شرم الشيخ» بعد أيام من قيام ثورة 25 يناير، ومعه مجموعة صناديق تحتوى على 450 مليون يورو نقدا وجديدة، ولا تزال بنفس التغليف الذى صُرفت به من البنك المركزى الأوروبى، وحطت طائرة «حسين سالم» فى مطار «أبوظبى»، وفى مطار «أبوظبى» لاحظ مأمور المطار هذه الصناديق، وأدرك على الفور أنها أوراق نقد، وأخطروا بالأمر سلطات مسئولة فى «أبوظبى»، وصدر قرار بالاتصال بالقاهرة لسؤالها فى الموضوع، وكان «مبارك» شبه معتزل فى «شرم الشيخ»، لكنه لم يكن قد «تخلَّى» عن السلطة بعد ـ وجرى الاتصال بنائبه الجديد السيد «عمر سليمان»، وأشار النائب بالإفراج عن الرجل، وعدم إثارة ضجة فى الوقت الحاضر حول الموضوع، لأن الظرف حرج، وسأل بعض المسئولين فى الإمارات شخصيات مصرية عما يمكن التصرف به حيال الموضوع، وكان بينهم نائب رئيس الوزراء المصرى السابق، ووزير الصناعة والتجارة فى مصر السيد «رشيد محمد رشيد»، وكانت نصيحة «رشيد» وغيره ـ إيداع المبلغ مؤقتا فى البنك المركزى للإمارات، والاتصال مع السلطات المصرية للبحث عن الأصل فى هذا الموضوع، وكيفية التصرف حياله.

وقد سألت المهندس «رشيد محمد رشيد» ـ فيما بعد ـ عندما قابلته فى عاصمة أوروبية عن صحة الرواية، واستأذن الرجل «أن أبقيه بعيدا عن هذا الموضوع»، لأن لديه من المشاكل ما يكفيه، وإن استفاض فى الحديث عن غيره من الموضوعات، وأهمها روايته عن الأيام الأخيرة لنظام «مبارك» فى مصر، وللأمانة فإنى لم أستأذن الرجل فى نشر ما أشرت إليه الآن مما ورد فيه اسمه، فحين قابلته لم يكن فى تقديرى أننى سوف أكتب هذه الصفحات، وكذلك لم أستأذنه!!

وعلى أى حال فقد انقضت الآن أيام وأسابيع وشهور، وظهرت أخبار كثيرة فى صحف مصرية وخارج مصر عنها، لكن الغموض ما زال يكتنف مصير صناديق الربعمائة وخمسين مليون يورو، ومن هو صاحبها الحقيقى؟! ـ وماذا جرى لها؟! ـ وأسئلة أخرى بغير نهاية!!



في الحلقة القادمة:
                           مسألة أشرف مروان .. أين هي الحقيقة فيها؟ .. آخر لقاء مع أشرف مروان في لندن .. وماذا قال؟!